أزمة الديمقراطية في الدول الغربية
لحسن حداد
يمر العالم بفترة تميزها الانتكاسات العديدة والمختلفة الأوجه التي تعرفها الديمقراطية، وهذا ليس جديدا في التاريخ الحديث فالفاشية والنازية والشيوعية والاستبداد العسكري والأنظمة الشمولية والملالية كانت كلها عدوة للديمقراطية وبنت مجدها على حساب حرية الشعوب، عن قصد أو غير قصد، وصادرت قدرتها على الاختيار السياسي وقرارها المستقل المتعلق بمن يتولى تدبير شؤونها.
و في سياق الأزمة الحالية يحاول اليمين المتطرف إعادة إنتاج الاستبداد أو القومية و الأوليغارشيات المستبدة لكن عبر حركات قومجية، شوفينية، تتبنى شعبوية شبه بدائية، وإن بدا الأمر بشكل مقبول إلى حد ما، خصوصا في أوربا وأمريكا الشمالية، بحيث تستعمل أزمة الهوية، والأزمة الاقتصادية كذريعة للنبش في البنية الإثنية والاجتماعية لهذه المجتمعات وتحريك الإحساس بالرغبة في الخلاص عبر منقذ أو منفذ متخيل أو شبه واقعي…
في مقال رأي صدر له في نيو يورك تايمز بعد أحداث شارلوتزفيل بولاية فرجينيا يوم السبت 12 غشت، والتي قتل خلالها النازيون الجدد امرأة ونشروا الرعب وسط المدينة، قال الكاتب مايك إريك دايسون أن اليمين المتطرف في أمريكا، يرى نفسه ضحية هجوم مفترض لسياسات “الاستقامة السياسية” (أي التمييز الإيجابي لصالح المرأة والسود والأقليات وسياسات دعم المجتمعات والثقافات المتعددة والمتسامحة فيما بينها) على الديمقراطية المبنية على الاستحقاق (أي تفوق البيض).
و المشكلة بالنسبة لليمين المتطرف هي أنه يتجاهل كيف أن العبودية ومن بعدها سياسات التمييز العنصري خلقت نذوبا نفسية واجتماعية وسياسية واقتصادية في المجتمع الأمريكي، جعلت الحديث عن ديمقراطية المساواة التي تتجاهل التاريخ والسوسيولوجيا ضربا من الفنتازيا السياسية التي تريد تأبيد سيطرة البيض على الحكم والاقتصاد. ليس كل البيض سيستفيدون من هذا النظام، ولكن الرجل الأبيض، يكتفي بخطاب شبه عنصري يردده شخص مثل ترامب إبان الحملة وحتى في البيت الأبيض لكي يفرغ جيوبه، كما يقول دايسون، من أجلك ومن أجل أصحاب المال والرأسمال الحقيقيين الذين يمثلهم ترامب أحسن تمثيل.
الهجوم على الديمقراطية التعددية والتاريخية في أمريكا من أجل ديمقراطية فانتازية هي في الحقيقة حكم تعصب أعمى (bigotocracy)، كما قال دايسون. ولكن المخيف ليس وجود اليمين المتطرف وإنما زحفه من الهامش على المركز، ووجود رئيس في البيت الأبيض يعرف فضل ستيف برانون (مستشاره في الشؤون الإستراتيجية) ودافيد ديوك والكثير من زعماء اليمين المتطرف والذين بدونهم سيفقد قاعدته الانتخابية والتي قد يهجرها الجمهوريون المعتدلون وحتى المحاقظون الجدد منهم والقدامى.
إذا كان هذا يقع في واحدة من أعرق الديمقراطيات في العالم، فما بالك في دول حديثة العهد بالديمقراطية في أوربا الوسطى والشرقية وحتى دول غرب أوربا. فبعد سبعين سنة على سقوط النازية وتقوية عود الديمقراطيات الغربية، نرى أن الحركة الديمقراطية تعيش في حالة دفاع مستمر، و القيم و المثل التي كان ينادي بها الديمقراطيون من حقوق الإنسان والإنصاف والمساواة وحقوق المرأة صارت حججا يستعملها اليمين المتطرف، ومعه الإنسان العادي، للبكاء على هوية طاهرة كانت مصدر قوة، وتآكلت بفعل هجوم المهاجرين والسود والعرب وسياسات الانفتاح والعولمة والسياسات الليبيرالية واليسارية للنخب التقليدية.
الأزمة الاقتصادية والتحولات التي يعرفها الاقتصاد العالمي حيث أخذت الروبوتات مكان اليد العاملة ودفعت الكثير إلى البطالة وكذا صعود دول ناشئة تستحوذ على قدر كبير من التجارة العالمية (الصين والهند والبرازيل وغيرها) وتضرر الكثير من الصناعات من إعادة التوطين حيث اليد العاملة أقل تكلفة–كل هذا أجج صراع الهويات وإعادة إنتاج النزعات القومجية في العديد من البلدان.
لهذا يمكن القول بأن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي كان على خلفية أيديولوجية تروم إعادة تمثل الهوية البريطانية وقوتها التي استمدتها من التاريخ الامبريالي لإمبراطوريتها التي لا تغيب عنها الشمس، وعناصر التفرد الانجليزي المتمثل في وجود البحر من كل جانب (insularity) يحمي الهوية من الأفكار الأوربية ابتداءا من الثورة الفرنسية ووصولا إلى فكرة أوربا الموحدة التي يتم الطهي لها في مكاتب بروكسيل البيروقراطية. على هذا الأساس أصبحت الديمقراطية للأسف لصيقة بنوع من النزعة الهوياتية التي يغذيها الخوف الشعبي من المهاجرين نحو أوربا الذين أصبحوا يؤثتون شوارع لندن وبيرمينغهام ومانشيستر وليبفربول.
صحيح أن سياسيا شابا مثل ماكرون قوض (إلى حين) الحلم اليميني المتطرف في فرنسا ، وصحيح أنه أيقظ الثقة في فكرة أوربا الموحدة والمنفتحة على محيطها وعلى الهجرة الذكية والمنظمة ولكنه فعل على ذلك على أساس برنامج اقتصادي يحتوي جملة من الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية. إن توفق في خفض البطالة وإعطاء دفعة قوية للصناعة والتجارة الخارجية وأصلح نظام التغطية الاجتماعية وتغلب على الانفلات الأمني، سيكسب رهان إعادة الثقة في الديمقراطية الفرنسية المبنية على القيم الجمهورية المتمثّلة في الحرية والمساواة والإيخاء ، وأي فشل لماكرون في تحقيق برنامجه سيؤشر على عودة اليمين الفرنسي المتطرف بقوة أكثر وتنظيم أنجع.
أمام المد المتصاعد للحركات اليمينية المتطرفة، يقف الغرب كرائد تاريخي للحركة الديمقراطية، ومعه العالم، في مفترق الطرق؛ فإما أن تتعبأ كل أطياف المجتمع السياسي من أجل حركة سياسية تتوخى إعادة الثقة في قيم الحداثة والتعدد والانفتاح والتنافس السياسي الشريف أو سنعيش سنوات وربما عقود من إعادة انتاج أيديولوجيات التفوق العرقي وويلاتها والتي ظنناها ولت إلى غير رجعة.
وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا بسن سياسات اقتصادية واجتماعية تأخذ بعين الاعتبار الإحباط الذي تعيشه الطبقات الوسطى والتي أضحت أكثر تضررا من العولمة والانفتاح وإعادة التوطين والتحولات الاقتصادية. ولمواجهة هذه المخاطر التي من شأنها تقويض الاستقرار العالمي والتراجع عن المكتسبات الديمقراطية هناك حاجة ماسة لبناء نموذج اقتصادي جديد يعيد لهذه الطبقات دورها الريادي والاجتماعي الذي يعزز الاستقرار الأيديولوجي والسياسي الذي بدونه لا يمكن للديمقراطية أن تضمن استمراريتها. الأمر ليس بالهين ولكنه ممكن حيث يتطلب فقط وجود رجال ونساء أكبر من اللحظة وعينهم على التاريخ لجعل هذا الحلم حقيقة.
إنها معركة القوى الحية في المجتمعات لمواجهة المد المتصاعد لليمين المتطرف والمحافظين الجدد من خلال استرجاع دور الأحزاب السياسية في خلق أفكار جديدة وحلول مبتكرة يساهم فيها المثقفون والمجتمع المدني والمقاولون الاجتماعيون وذلك من أجل تعاقد أخلاقي جديد يساهم في تقوية منظومة القيم الإنسانية التي هي الوسيلة الوحيدة الكفيلة بصون السلم الاجتماعي للشعوب والاستقرار العالمي.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/08/16