العلاقات اليمنيّة ــ السعوديّة: حروب وفتن
عبد الباري طاهر
العلاقات اليمنية ــ السعودية منذ نشأة الكيانين، اليمني: المتوكلية اليمنية، والسعودي: المملكة العربية السعودية، تتسم بالصراع والتوتر المستمرين. كلا النظامين من بنية اجتماعية متداخلة ومتخلفة ومختلفة سياسياً. الكيان السعودي ـــ في الدولة السعودية الثالثة ـــ قام على أساس تحالف شيخ القبيلة عبد العزيز آل سعود مع داعية الدين من آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كامتداد لتحالف الدولة السعودية الأولى. نشأت هذه الدولة كمعطى من معطيات فاتحة القرن العشرين والحربين الكونيتين: الأولى، والثانية. البنية الاجتماعية متنوعة ومتداخلة ومتفاوتة في التطور في كلا البلدين. المدن في اليمن والحجاز هي مراكز التمدن والتحضر والحياة المدنية والسياسية، وفيها فئات وشرائح ضعيفة العصبية القبلية. أما مناطق الريف، ونجد، والمناطق الجبلية المغلقة في اليمن ذات العصبيات القبلية فهي الأكثر بداوةً وتخلفاً. المناطق المسكونة بالعصبيات القبلية والمدججة بالسلاح هي التي قادت الكفاح ضد الوجود التركي هنا وهناك. قاتل عبد العزيز آل سعود الأتراك والقوى الأخرى، متحالفاً مع بريطانيا، بينما تحالف الإمام يحيى مع الأتراك في ما سمي «حرب طرابلس»، واتسمت علاقاته بالأتراك بالمد والجزر، الاحتراب والصلح، وآخرها «صلح دعان 1911»؛ تعبيراً عن نزوع ديني. حرب 1934 كانت ثمرة التحالف البريطاني ـــ السعودي؛ تحقيقاً للمطامع السعودية في اليمن، كما يسميها الدكتور محمد علي الشهاري في كتابه المهم «المطامع السعودية في اليمن».
الإمام يحيى حميد الدين، عالم الدين وزعيم المذهب الزيدي في اليمن، يتوخى استعادة دولة أجداده من آل القاسم بن محمد. ويقوم تراتب السلطة في اليمن (المتوكلية اليمنية) على أساس: السيد، والقاضي، وشيخ القبيلة، والرعوي. وهناك فئات وشرائح مهمة تسمى «أبناء الخمس». ويحصر الحكم في المذهب الزيدي ـــ نظرياً ـــ في البطنين، لكنه على الصعيد الواقعي يرتبط بالمتغلب الأقوى، وبتحالف ما يسمى بيعة أهل الحل والعقد، وهي هنا شكلية إزاء قوة الإمام الخارج. فمبدأ الخروج الجهادي أساس في شروط الإمامة الأربعة عشر في الزيدية. أما في نجد، فالبنية القبلية قوية ومتداخلة مع المناطق والقوى البدوية. وينتمي آل سعود إلى قبيلة «عنيزة» القبيلة القوية في نجد منذ تأسيس الدولة السعودية الأولى.
اعتمد عبد العزيز على القبائل الأكثر بداوةً وتخلفاً وهمجية، وامتزج التعصب القبلي والبدوي بدعوة سلفية شديدة القسوة والعنف، وطابع الدعوة فيها يقوم على تكفير كل من هو خارج الديرة القبلية، وخارج المذهب الوهابي. والمذهب ـــ حتى اليوم ـــ دعوى تكفير بامتياز، بينما يتسم المذهب الزيدي كعقيدة اعتزالية بقدر من العقلانية، وعدم الإيغال في التكفير، فالتكفير فيه يقوم على التأويل، لا على التصريح في الجدل الكلامي، وفي مستوى معين، بينما في الوهابية دعوى جهادية تحكمية، وتعم المجتمع ككل.
ناسَ الإمامُ يحيى ـــ في البداية وإبان الحرب العالمية الثانية ـــ بين محاربة الأتراك ومهادنتهم والتعاون معهم تأييداً للخلافة الإسلامية، وقتال الكفار، بينما انحاز عبد العزيز ـــ في الحرب ـــ إلى جانب الحلفاء، وضد المحور، وتحديداً الأتراك؛ فخرج من الحرب منتصراً.
دعوة الإمام يحيى بالحق التاريخي في الجنوب، وتحركات بعض السلاطين والشخصيات الجنوبية للوحدة، وحرص بريطانيا على إرغام الإمام على ترسيم الحدود مع المحميات، مثلت وجهاً من أوجه الصراع بين بريطانيا والمتوكلية اليمنية. كما أن مطالبة الإمام بالحق التاريخي لم تكن مسنودة بالانفتاح على المناطق اليمنية المختلفة، ولا تجد القبول لدى السلاطين في الجنوب الذين يطالبون بزعامة روحية فقط، ومشاركة في حكم يتشارك فيه الجنوب والشمال؛ وهو ما عبّر عنه «برنامج التوحيد» الذي قدمه صاحب «الرحلة اليمانية» عبد العزيز الثعالبي.
الطبيعة الطائفية لحكم الإمامة، وعدم تشريك الأطراف الأخرى من مختلف المناطق والفئات والشرائح هي نقطة ضعف الإمامة. في الجانب الآخر، عبد العزيز آل سعود، زعيم قبلي يوظف المذهب توظيفاً سياسياً، ولديه مطامع في الاستيلاء على الجزيرة والخليج كله، مدعوماً بالحليف البريطاني الذي يؤيده حيناً، ويكبح جماحه حيناً آخر. تلك كانت الأرضية الخصبة لحرب 1934 التي استولت فيها السعودية على نجران وعسير والمخلاف السليماني.
اتفاقية «أخوة عربية وصداقة إسلامية» الموقعة في الطائف 1934 نظر إليها اليمنيون كاتفاقية إذعان، لأنها وُقّعت تحت وطأة هزيمة جيش الإمام يحيى في الحرب، وظلت قضية الحدود بين البلدين، وموقف السعودية ضد الثورات اليمنية كلها، ابتداءً من 1048، وحرب السبع سنوات ضد ثورة 26 سبتمبر 1962، والرابع عشر من أكتوبر 1963، وأخيراً دعم صالح المتهم بقتل إبراهيم الحمدي، وتشجيع الصراعات اليمنية، وزعماء القبائل المتمردين ضد الدولة، وآخرها الحرب القائمة اليوم... كلها سردية
الصراع اليمني ـــ السعودي.
يرصد الدكتور سيد مصطفى سالم مراحل العلاقات اليمنية ـــ السعودية، ويناقشها مناقشة رصينة، ويأتي على الأطوار التي مرت بها دائرة الصراعات القبلية بالأساس، والأبعاد السياسية للصراع الذي يوظف البعد الديني والطائفي لأهدافه ومراميه.
ضعف الإمامة وطائفيتها وانعزاليتها هو ما أغرى بحرب 1934، وأدى إلى احتلال نجران وجيزان وعسير. وقد أدّت المملكة دوراً خطيراً في هزيمة الثورة الدستورية، وساندت في 1962 القوى الملكية المناوئة للثورة، ودعمت الحرب ضد الجمهورية ما يقرب من سبعة أعوام، كما دعمت الثورة المضادة في الجنوب، وساندت نظام علي عبد الله صالح المتهم بقتل الرئيس إبراهيم الحمدي، وعبر المراحل العديدة وقفت المملكة ضد القوى الحديثة وقوى التنوير والديموقراطية، ونكلت ـــ ولا تزال ـــ بالمغتربين اليمنيين، وتقود الآن ـــ كأغنى دولة من دول العالم ـــ الحرب ضد أفقر بلد جار عربي مسلم. وهذا لا يعني أن الحكم اليمني، والنخب والقيادات اليمنية لم تقترف أخطاء فادحة، سواء في الجنوب أو الشمال، وعبر مراحل الصراع.
العلاقات العربية موصومة بتبادل الأخطاء، والفعل ورد الفعل، والقيادات اليمنية الحاكمة جزء أساسي من كوارث الصراع منذ حرب 1934 حتى اليوم. حرب الثلاثة أعوام شاهد على كارثية العلاقة والجوار اليمني ـــ السعودي. الحرب الأهلية تغذيها وتشعلها حرب خارجية تحاصر اليمن براً وبحراً وجواً، وتعطل الموانئ والمرافئ، تغلق مطار صنعاء، وتجوع أكثر من ثلثي السكان، وتشرد أكثر من ثلاثة ملايين، وتتسبب في نشر الأوبئة الفتاكة المنقرضة، وتدمر عشرات القرى والأحياء السكنية والأسواق العامة والمدارس والمستشفيات والمؤسسات والجسور، وتقتل الآلاف، وتجرح مئات الآلاف، وتمنع وتعيق وصول البضائع والمساعدات والأدوية، وتدمّر البنية التحتية والبنية المجتمعية، وتمزق نسيج مجتمع متعطش للسلام، وتواق إلى الحرية والعدالة.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/03/24