ويتسع الأخدود .. وصارت أثرًا بعد عين
قرأت لكم: ربى رشيد ..
تعتبر رواية مدن الملح بأجزائها الخمسة إحدى أروع اللوحات الإنسانية والإجتماعية عن صدمة الحداثة في مجتمعات العالم الثالث، فهي تعبر عن تلك المودة الحارة بين أبناء الأرض الأصيلين، وتجسد التعبيرات والتساؤلات والمحن الإنسانية وأثر النفط والأمريكيين والحكام المحليين في أحد بلدان الخليج. يبرز لنا الجزء الثاني من هذه الخماسيّة "الأخدود" تفاصيل كيف عملت السلطة بمبدأ القوة والقمع من أجل الإخضاع والتّرويض والسّيطرة.
هكذا يزداد الشرخ ويتسع الأخدود الذي بدأت بوادره في "التيه". هكذا يصبح المستقبل رهانًا على المجهول بعدما تبدّدت ثروة من ذهب أسود على يديّ غرباء غيّبوا معالم البلاد والعباد. قصة مبعثرة عن عاصمة بدأت أحداثها في خيمة صغيرة غدت قصورًا ومدنًا من ملح وطوب، قصّة عن الطمع والجشع عند بني البشر، وكيف يأكل القوي الضّعيف ويرميه لوحوش الطّبيعة في ليلة عاصفة لا ترحم.
الحكيم مثال المتزلفين للسلطة
يتفق الكثير هنا على مبدأ التقرب من السّلطان ليزيد من حصته في قالب الجبن المرجو. ويتفق آخرون على مبدأ فرّق تسد والأقارب عقارب، وها هو الحكيم يهمس في أذن السلطان " يا صاحب الجلالة يجب أن تكون على معرفة تامة بما يدور بين إثنين، حتى يجب أن تسمع دبيب النّملة خاصة أن الأفكار الهدامة تنتشر كالنار في الهشيم. استطاع الحكيم المثل الأبهى للأولئك المتزلفين للسلطان وأحد أهم أعوانه أن يستغل السلطة على أكثر من صعيد فبدأ إقتصاديًّا، وأقام مع عائلته شركات استيراد وتصدير خارجيّة لمستلزمات وكماليات دخيلة لتجاري نمط الحياة الجديد الذي طرأ على أهل البادية ومعيشتهم.
غدى الحكيم الذي استغنى عن مهنته ليركّز على التجارة وشراء الأراضي في موران، أحد الأرقام الصّعبة يعقد الصّفقات، ويتباحث بالأمور السّياسيّة الدّاخليّة والخارجيّة والآثار الإجتماعيّة على للبلاد وأهلها. ولأن موران ليست جزيرة معزولة عن المتغيرات الخارجية لممالك سقطت وذابت كما يذوب الملح في الماء، قرر الحكيم النبيه أخذ الحذر والبدء باللعبة على أصولها فخلق صحافة ليضمن أن تقرأ الناس ما يكتبه لا ما يكتبه الطّرف الآخر، في وقت كان الملوك مشغولين بالمال والنساء والقصور.
العرش تحت سلطة الإعلام والسّلاح
و"موران" التي كانت تغرق بالرخاوة والتأمل والانتظار، بدأت تنتفض وتتغيّر: أبنية من أنماط لا حصر لها، وشوارع تشق وسط المدينة، لتبدو البيوت والجدران والأشجار، كأنها عصور قديمة خلفتها هزّة مفاجئة وكأن الناس قد جنوا وأخذ كل واحد منهم معوله وأخذ ينتقم من المدينة ويقوضها دون رحمة وبأسرع وقت.
وفي ليلة وضحاها انقلبت الطاولة، وقرّر السلطان الحد من صلاحيّة المستشارين "هؤلاء الذين لا يفتون إلَا بالسّوء" على حد قول الأمير محجم. وبدأ التناحر بين المستشارين الجدد كالعيساوي والعجرمي من جهة والحكيم وحاشيته من جهة ثانية. لكن الحكيم النّبيه بقي ينتظر في الزّاوية حتّى إذا أخطؤوا ووقعوا لضربهم وعسى أن تكون الضّربة قاتلة...أما عن علاقته بالأمراء فقد استلزمه الأمر الكثير من التفخيم والمراضاة والتزلّف والعطايا قائلًا: واللي بدو يكسب لازم يفت لازم يعطي ويهدي.
يبرز في هذا الجزء من الخماسيّة دور النّساء أيضًا في أروقة قصور السلطان وفي حياة شيخات القصر. فها هي أم حسني التي تحمل ماضٍ ثقيلًا مثخنًا بالآلام والتي عادت إلى البلاد لتحتضن ولديها وعائلاتهم تدخل القصور وتعبث بأروقتها وتدخل إليه من البخور واللّبان وما شابه للشيخات والأميرات، وتقرأ لهم الغيب في الفناجين إلى أن خيّرها ابنها بين القصر وبينه فاختارها الموت على أعتاب موران...
بدأ تاريخ موران يغيب ويختفي من ذاكرة النّاس، وحتّى سوق الخميس الأشهر في المدينة أبلغ أهله أنه سينقل إلى العوالي، ويجب على أصحاب الدّكاكين إغلاقها من الآن فصاعدًا. عاد الحكيم والذي غاب لفترة من الزّمن عن ذاكرة الكثيرين، وكاد يُنسى إلى موران قبل أسابيع من إغلاق سوق "الحلاق" لكن هذا الحكيم أو عقل موران المدبّر كما يطلقون عليه انصرف أخيرًا إلى قضايا الفكر والإعلام كسلاح جديد لخدمة قضاياه الكبرى وكان أهمها "كيف يمكن للإعلام إعادة خلق البشر" متنبهًا إلى الوافدين الجدد وأفكارهم الجديدة التي يدخلونها إلى موران.
"موران" كأنّها لم تكن
غدت موران مقبرة لا من باع ولا من شرى، فقط "السلطان عرّس والسّلطان خلّف". وعلى حدّ قول أحدهم "المالطي اشترى مقبرة حران وباكر يشري مقبرة موران". وها هو تاجر الخيول يتراجع عمله بعد دخول السيارات والبيك آب وذهول النّاس بهم، أمّا المتعالون على أهل بادية قدّمت لهم كنوز أرضها يردّون الجميل لها بقولهم"لا يمكن للإنسان أن يتفاهم مع هؤلاء البدو، أنهم حيوانات صحراويّة. يمكن أن أضحك عليهم، أن أمازحهم، لكن نبقى عالمين".
وقد استطاع الحكيم وأترابه في نهاية المطاف عقد اتفاق تسلح لجيش سلطنة موران مع الولايات المتحدة بمساعدة إبنه غزوان الذي أكمل دراسته فيها واستطاع بحنكة ورثها عن أبيه إقناع الأمريكان بها. وبهذا الاتفاق تغيرت المفاهيم السياسيّة والعلاقات الدّولية، فموران اليوم تعني شيئًا هاماً لأمريكا وللغرب نظرًا لموقعها ولإمكاناتها البتروليّة. وبذلك نزعت آخر ورقة توت عن الاستقلال الذّاتي وانتقل مركز القرار إلى الخارج ووضع السّكين على رقبة ما بقي من موران .
وفي أحدى الاحتفالات وقعت عين السّلطان على "سلمى"إبنة الحكيم الولهان للمناصب والسّلطة، وأرادها أن تكون زوجته السابعة والعشرين رسميًا، وما خفي من أرقامٍ كان أعظم. كان السّلطان فرحًا جدًا بهذا الزّواج وقد رقص خلال الاحتفالات بسلاحٍ جديدًا لا بالسًيف العربي الأصيل، مما أثار وغيره من الممارسات الاحتفاليّة الدّخيلة استياء أهل الصّحراء من التّعدي على التقاليد العربية والإسلاميّة وطمسها مرّات عديدة.
لكن هذه المرة لم تسلم جرّة الحكيم ونسيبه الجديد، فأولاد السلطان الأب قرّروا تنحية السلطان خزعل وتسمية الأمير فنر سلطانًا لموران بسبب الإهمال والعجز والابتعاد عن الطّريق السّوي على حدّ تعبيرهم. وتحت جناح ليلةٍ سوداء جمع الحكيم في حقيبة صغيرة بعض الحاجيات البسيطة وسافر عن هذه الأرض، حقيبة لا تكفي أعمارًا لأهل موران المبعدين قصرًا ولا تسع ذكريات وذاكرة أرضٍ تلعنه أولادها وتدعي عليه أمهاتها الثّكلى.
واستمرت موران تسمع وتتوقع وتنتظر، فعلى هذه الأرض ما يستحقّ الحياة.
أضيف بتاريخ :2016/11/07