استشراف قيام العدل وحكم القانون في عالم يحاربهما
د. سعيد الشهابي ..
المقولة السائدة «العدل أساس الملك» تتردد على ألسنة البشر، وهي أساس أمن الأمم والدول والشعوب واستقرارها. وبدون العدل تعم الفوضى وينتشر اليأس بين الناس وتنطلق الظواهر التي قد لا يتوقعها الحكام الظالمون أنفسهم، وتحاصرهم حتى يحدث واحد من أمرين: أما إقامة العدل أو سقوط الحكم. وجاء في المأثور أن «الحكم يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم».
وما يعانيه العالم اليوم من اضطرابات أمنية وسياسية لا تنفصل أسبابها عن تراجع منظومة العدل، حتى في البلدان المتقدمة التي يفترض أن يكون «حكم القانون» جوهر نظامها السياسي. فالقانون وحده لا يكفي، بل تطبيقه هو المهم. ويمكن القول أن أغلب الدساتير والقوانين في العالم تنص على العدل والمساواة وإقامة حكم القانون، ولكن التحايل على ذلك وتأويل معاني تلك المبادىء والأعذار التي يقدمها السياسيون، كل ذلك يحول دون إقامة منظومة العدل.
وغياب تلك المنظومة يؤسس لما تعانيه المجتمعات التي يحكمها البشر. فما أسباب عدم الصرامة في إقامة حكم القانون؟ من الصعب الإجابة على ذلك بما يحظى بقبول المهتمين بقضايا التغيير الاجتماعي وديناميكية العقل البشري ورصد المسار البشري في تقصي قضايا الحكم والإدارة بما يحقق سعادة الإنسان. فالغرب الذي يشعر مفكروه وسياسيوه يشعر بنشوة المنتصر الذي يلهيه شعوره عن استيعاب منظومة العدل الإلهي التي تقضي بهلاك الأمم والشعوب إذا مارست الظلم: «وتلك القرى لما ظلموا أهلكناهم». هذا الشعور بالكمال الفكري والسياسي الذي دفع شخصا مثل فرانسيس فوكوياما لإطلاق مقولته الشهيرة قبل 25 عاما بان التطور الإنساني بلغ ذروته بوصوله لمنظومة «الديمقراطية الليبرالية» التي تمثل، في نظره، أفضل منظومة بشرية للحكم.
هذا الشعور بالكمال البشري ساهم في سلسلة من التراجعات السياسية والأخلاقية في عالم اليوم، أدت إلى حالة الفوضى الأمنية والفكرية والتعصب التي تمثل ظاهرة «الإسلاموفوبيا» أحد مصاديقها، وبهذه الفوضى أصبح إنسان اليوم يعيش حالة من القلق التي عبرت عنها تطورات سلبية عديدة. من هذه التطورات الشعور الدائم بانعدام الأمن والمبالغة في إجراءاتها، حتى أصبحت مدينة مثل لندن أكثر مكان تنتشر فيه كاميرات التجسس على المواطنين، وتحققت بذلك نبوءة جورج أورويل قبل قرابة السبعين عاما، بانتشار ظاهرة «الأخ الأكبر» أي هيمنة الدولة وأجهزتها الأمنية على حياة البشر. ومن ذلك أيضا تعمق الرغبة في امتلاك أشد الأسلحة فتكا، تحسبا لصراعات مستقبلية.
ومن زار معرض فانبرة للطيران الذي أقيم الأسبوع الماضي في مقاطعة «ساسكس» البريطانية يدرك إبعاد الخوف الدائم الذي يهيمن على حكومات العالم. وبرغم احتجاجات المجموعات المناهضة لبيع السلاح مثل «حملة مكافحة بيع السلاح، كات» فان التسابق لشراء الأسلحة خصوصا الطائرات المدمرة وأحدثها «اف 35» الأمريكية يعبر عن تغول ظاهرة الخوف لدى الدول، المحكومة بالاستبداد أو «الديمقراطية». ثالث هذه المصاديق كثرة النزاعات نتيجة النزعة نحو الهيمنة، ومن أخطرها ما ينبىء باحتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة بسبب اعتراض أمريكا على توسع نفوذ الصين بمنطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادىء. وهنا أصدرت منظمة العدل الدولية الأسبوع الماضي حكما بعدم حق الصين في التمدد في بحر الصين الجنوبي وعدم شرعية الإجراءات الصينية التي قامت بها كإنشاء جزر اصطناعية كقواعد عسكرية.
يمكن القول أن غياب الإيمان الحقيقي بالله من بين العوامل التي تؤدي إلى ظهور النزعات الشيطانية لدى الكثيرين، خصوصا الطامحين للنفوذ والمال والجاه. وهنا يلاحظ أن الديمقراطية الغربية لم تنجح في كبح جماح مسؤوليها. فما أكثر الذين يستلمون أموالا من أنظمة قمعية في مقابل ممارسة الضغط على حكوماتهم أو برلماناتهم لاتخاذ سياسات داعمة لتلك الأنظمة. بل أن وزراء كبارا في الحكومة البريطانية استلموا رشاوى في شكل هدايا مثل ساعات روليكس من عناصر محسوبة على تلك الأنظمة. وفي العامين الأخيرين كثرت الأنشطة في قاعات البرلمان البريطاني للتأثير على السياسة البريطانية تجاه «حكومات صديقة». تلك الأنشطة نظمها أعضاء برلمانيون منتخبون، يستلمون أموالا من تلك الحكومات، ويكشفون عن بعضها في السجل الرسمي لمصالح أعضاء البرلمان. وذكرت صحف عديدة من بينها «ميل اونلاين» و»ديلي تلغراف» أن شركة «استشارات بلير» التابعة لرئيس الوزراء السابق، توني بلير، طلبت من دولة الإمارات 35 مليون دولار من أجل «تحسين صورتها ونفوذها». القانون لا يمنع ذلك حسب ما يقولون، وهنا تصبح المشكلة في القانون نفسه الذي يتيح لذوي النفوذ والسلطان مضاعفة قوتهم بالمال. في الوقت نفسه ذكرت الأنباء أن المعارض السعودي، الدكتور محمد المسعري، مطالب بإخلاء منزله الذي يعيش فيه منذ أكثر من عشرة أعوام، بدعوى أنه استلم مبالغ شهرية من نظام القذافي لشراء ذلك المنزل.هذه القضية ليست مخالفة للقانون ولكن تم تضخيمها واتخاذ إجراءات مجحفة بالشخص لأسباب سياسية فحسب، بينما لا ينظر للحالات الأخرى المذكورة من الزاوية نفسها. وحين يقوم شخص ما بإيداع مبلغ يزيد عن بضعة آلاف من الدولارات فأن عليه أن يملأ استمارات ويجيب على تساؤلات كثيرة حول مصدرها. ولكن من يستثمر من المسؤولين السياسيين، مليارات الدولارات في العواصم الغربية ليس مطالبا بالإفصاح عن مصدرها. العدل هنا نسبي وانتقائي ومزاجي، الأمر الذي يفرض التساؤل عما إذا كان هذا العالم حقا قد بلغ ذروة التطور في منظومة الحكم، أو أنه قادر على ممارسة العدل.
في الأسبوعين الماضيين انطلقت الاحتجاجات بشكل واسع في مدن أمريكية عديدة احتجاجا على حوادث قتل كان ضحاياها من المواطنين السود، على أيدي عناصر بيضاء من الشرطة. وعاد مسلسل التوتر العرقي مجددا، بعد مرور أكثر من نصف قرن على حركة الحقوق التي أطلقها السود الأمريكيون في الستينات طلبا للمساواة وأدت لاغتيال الزعيم الأسود، مارتن لوثر كنغ. العدل هنا مفقود وظواهر التمييز العنصري والديني مصاديق يومية لذلك.
فأمريكا التي كثيرا ما تشدق ساستها بمبادىء «الآباء المؤسسين» ما تزال تعاني من مشاكل مرتبطة بانتشار السلاح وتغول العنصرية والرغبة في الهيمنة على الشعوب الأخرى بقوة السلاح. وحين تبالغ قوات الاحتلال الإسرائيلية في تحدي الضمير الإنساني وتصر على توسيع بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية، بينما يعيش أبناء فلسطين في المنافي، ويلوذ العالم بالصمت، أليس ذلك منافيا لمنطق العدل الذي يمنع العدوان والاحتلال وإقصاء البشر عن أوطانهم؟ وحين يتقايض الغربيون مع بعض الأنظمة العربية للاعتراف بالكيان الإسرائيلي والتنازل عن أراضي الفلسطينيين وحقوقهم في مقابل الدعم الأمني والعسكري، فأين ذلك من منطق العدل؟ وما قيمة الديمقراطية التي تسمح بذلك؟ وعندما تتعملق الدولة المؤسسة على الفرد أو الحزب أو الفئة أو القبيلة، لا يمكن تجسيد قيم العدل وحكم القانون وبذلك تسقط مبادىء «الشراكة السياسية» و»التعددية» و»الاختيار الحر». المشكلة أن حكام العرب والمسلمين مستعدون للتضحية بوحدة أمتهم وأوطانهم من أجل توفير ما تتطلبه نزواتهم البعيد عن هموم تحرير الأوطان أو تكريم الإنسان.
والواضح تبلد المشاعر وتكلس الأحاسيس لدى أغلب قطاعات الأمة. فحين يتم تقسيم السودان إلى دولتين، شمالية وجنوبية، نتيجة الهيمنة المطلقة للمركز وتهميش الأطراف، ومع إصرار نظام الحكم المركزي على تهميش الأطراف، كما يحدث مع إقليم دارفور، فمن الطبيعي حدوث التقسيم والاقتتال الداخلي، وقمع الشعوب. فهل هذا ما يتطلع إليه المصلحون وقوى التغيير؟
إن من أسوأ ما تمر به أية أمة أن تتآمر مكوناتها ضد بعضها، وأن يظهر الشقاق للعلن، وأن يصبح العدو «صديقا». وعندما يتحدث أحد المتنفذين الخليجيين أمام مؤتمر معارضي نظام الحكم الإيراني، ويشجعهم على العمل لإسقاط ذلك النظام، ويتهم أهم قوى المقاومة الفلسطينية بإشاعة الفوضى، فان ذلك تجسيد آخر لغياب منظومة العدل التي تستقطب الجميع ولا تتحدث بلغة الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي. الأمير تركي الفيصل اختار منبر منظمة «مجاهدي خلق» التي كانت على القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية إلى ما قبل أربع سنوات. احتجت المنظمات الفلسطينية خصوصا حماس والجهاد الإسلامي مشيرتين تلك التصريحات، بينما اعتبرت طهران تلك التصريحات تدخلا في شؤونها الداخلية خصوصا عندما قال «وأنا أريد إسقاط النظام». وهنا يصبح الصراع ضد الأنظمة الأخرى معوقا لأية محاولة للتغيير أو الإصلاح السياسي في البلدان العربية. وفي عالم تهيمن عليه المصالح وليس المبادىء، تتضاءل خطوط التمييز بين العدل والظلم، بين الإرهابي والمناضل وبين الظالم والمظلوم. وبذلك تبهت مفاهيم العدل وحكم القانون، ويتعمق نشوش الأذهان. وهذا يؤدي لحركة مفرغة تسقط فيها الشعوب المغلوبة على أمرها، بعد أن تصبح ضحية لما يمكن اعتباره «إرهابا إعلاميا» أو «تضليلا فكريا» أو «توجيها بعيدا عن قيم العدل والإيمان». وبذلك تتواصل أزمات الأمم وتزداد عقول أبنائها تشوشا وضياعا، وتضعف إرادتها وتصبح أكثر عرضة للنهب والسلب والاحتلال، وتتعمق بذلك الفجوة الكامنة بين الحكام والشعوب. ومع استمرار هذه الأوضاع وهيمنة المال والسلاح لدى النخب الحاكمة في عالم اليوم، يصعب التنبؤ بإمكان حدوث انفراج حقيقي يؤدي إلى قيام منظومة العدل وحكم القانون، ليس في العالم العربي فحسب، بل حتى في «العالم الحر».
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/07/18