معارك الغرب مع الإسلام من الحجاب إلى النقاب إلى البوركيني
د. سعيد الشهابي ..
قد لا يبدو للبعض أن إجبار امرأة مسلمة على خلع لباسها الشرعي أمام الآخرين قضية كبيرة أو أنها عنوان لمشكلة أخلاقية وقيمية كبرى مختزنة في اللاشعور لدى «العالم الحر»، إلا أن مدلولاتها لا يمكن التقليل منها، خصوصا في مرحلة تتطلب من الحريصين على أمن العالم واستقراره تعاونا وتقاربا واعترافا حقيقيا متبادلا بالوجود. وحين أقدمت الشرطة الفرنسية على إجبار امرأة مسلمة في منتصف العمر على خلع لباس السباحة الذي تعتبره «ضرورة شرعية» فأنهم ارتكبوا مخالفات عديدة أهمها حرمان المرأة من حقها في اختيار ما تريده من لباس. ومع أن القوانين الغربية تسمح بلباس السباحة المعتاد لدى الغربيين، إلا أنها لا تفرضه، والقانون لا يحدد أشكاله ومقاساته. ويلخص كاريكاتير صحيفة «التايمز» يوم الجمعة الماضية مضمون ما حدث، فهو يظهر الشرطة الفرنسية وهي تنزع قطعة القماش التي تلف تمثال الحرية الأمريكي، فتظهر خفايا جسدها. الرسالة واضحة: أن فعل الشرطة الفرنسية قام بتعرية المفاهيم الغربية للحرية وكشف مستورها. وهي رسالة واضحة تكشف ضحالة الالتزام بقيم الحرية التي طالما تشدق الغربيون بها. وفي عالم تسوده أعمال العنف والإرهاب والتطرف، تبرز الحاجة الشديدة لقيم التسامح والاعتدال والاحترام المتبادل، والتخلي عن لغة العنف والإجبار والإكراه.
والسؤال هنا: ما العمل مع من يصر على الالتزام بالقيم الدينية التي يؤمن بها؟
تجدر الإشارة إلى أن من بين أقوى الحجج التي يطرحها دعاة العلمانية أنها تسمح بحرية المعتقد والممارسة، بينما الأمر ليس كذلك حين يحكم «الدينيون». ومن الأدلة على ذلك أن المسلمين يمارسون حريتهم في الانتماء والعبادة والتعبير في الدول الغربية، بينما لا يتمتع غير المسلمين بحرية مماثلة تحت حكم بعض الأنظمة أو المجموعات التي تدعي انتماءها للإسلام. فالمساجد منتشرة في البلدان الغربية، وكذلك المظاهر الشرعية. وفي الأسبوع الماضي أعلنت السلطات الاسكوتلاندية أنها اعتبرت الحجاب الشرعي واحدا من أزياء الشرطة، وظهرت شرطيات محجبات يمارسن دورهن دون مضايقة. مع ذلك لا يمكن التغاضي عن وجود نزعات ضد هذا التوجه. وقد ظهر ذلك علنا الشهر الماضي عندما ظهرت فتاة مسلمة وهي تبث أخبار القناة الرابعة البريطانية. كان مشهد السيدة فاطمة مانجي المحجبة وهي تقرأ نشرة أخبار الساعة السابعة للقناة، وهي الأهم لديها، مثيرا لإعجاب الكثيرين، ومقززا لدى البعض. وكتبت تعليقات كثيرة أظهرت امتعاض البعض من السماح لامرأة محجبة بالظهور عبر شاشة قناة أساسية بريطانية، في الوقت الذي كانت عمليات إرهابية قد حدثت باسم الإسلام. السجال كان محرجا للجميع، الأمر الذي دفع السيدة المذكورة لإصدار بيان شكرت فيه من شارك في ذلك السجال وعبرت عن اعتزازها بالحرية المتاحة لها.
من هنا شعر دعاة العلمانية بحرج شديد إزاء مشهد الشرطي الفرنسي ومعه عدد من زملائه مدججين بالسلاح وهم يقفون على رأس امرأة واحدة في الزحام الصيفي على شاطئ مدينة ليصدروا لها أوامر عسكرية بنزع ما تعتبره لباسا شرعيا. وكما يقال، فرب ضارة نافعة، لأن مشهد المرأة التي امتثلت للأوامر حظي بتعاطف الكثيرين حتى من مناوئي الزي الشرعي، لأنها بدت مغلوبة على أمرها من قبل عناصر تملك من السلاح والدعم السياسي ما يهدد حقها المشروع في الاختيار والتصرف. وتعبيرا عن التضامن مع الزي الشرعي، نزل عدد من الراهبات إلى البحر بملابسهن الدينية للتأكيد على حق المرأة في اختيار ما يناسبها من لباس. فالحديث عن حقوق المرأة لا ينسجم مع السعي المتواصل لفرض أجندة محددة عليها. وهذا يتناقض مع الحملة التي نظمت ضد قانون «الولاية» المعمول به في السعودية والذي يفرض قيودا على المرأة في قضايا الزواج والسفر. جاء ذلك في ضوء تقديم مشروع قانون لمجلس الشورى يمكّن السعوديات من الحصول على جواز سفر من دون موافقة «ولي الأمر». ومن شأن مشروع القانون هذا أن ينهي التناقض القائم بين القانون المعمول به حاليا ونظام الجنسية السعودية الذي اشترط بلوغ سن الرشد (18 عاما) فقط وبغض النظر عن الجنس للحصول على جواز السفر السعودي.
جمهورية فرنسا التي تعتبر نفسها حامية للعلمانية ارتكبت في العقدين الأخيرين ما يناقض مبادئ الحرية وقيمها. فحين تصدر قانونا يمنع الفتيات من ارتداء الزي الشرعي وتحرمهن من الالتحاق بالمدارس والجامعات بسبب حجابهن فأن ذلك يعتبر مناقضا لروح الحرية التي ترفع فرنسا شعارها. ففي العام 2004 أصدرت فرنسا أول قانون يمنع ارتداء الحجاب، وتوسع منع الحجاب في دول أوروبية عديدة. هذا يعني أن المرأة أصبحت تعاني من الاضطهاد بعنوان الحرية، وتجبر على انتهاج سلوك لا ترتضيه. وكثيرا ما روج الغربيون مقولة أن الحجاب تعبير عن اضطهاد المرأة في العالم الإسلامي، مع أن ارتداءه قرار شخصي من الفتيات والنساء، وحالات الإكراه نادرة جدا. وكانت دول عربية وإسلامية تمنع ارتداء الحجاب، خصوصا خلال نصف القرن ما بين سقوط الدولة العثمانية (1923) وظهور الصحوة الإسلامية في مطلع السبعينات.
فقد منعته تونس في 1981 (خلال حكم الحبيب بورقيبة) وألغي القانون في العام 2011. ووفقا للمبادئ الدستورية العلمانية الرسمية قامت الحكومة التركية بمنع دخول النساء اللاتي يرتدين الحجاب إلى أماكن العمل في القطاع العام. وينطبق الحظر على المعلمين والمحامين والبرلمانيين وغيرهم. تم توسيع الحظر ليشمل منع ارتداء الحجاب في الخدمة المدنية والمؤسسات التربوية والسياسية غير التابعة للدولة. وقامت الحكومة التركية بطرد المحاميات والصحافيات اللاتي رفضن الامتثال للحظر المفروض من قاعات المحاكم والجامعات. في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ازداد عدد طلاب الجامعات الذين يرتدون الحجاب بشكل كبير وفي عام 1984 جاء أول قرار بحظر الحجاب في الجامعات الذي طبق على نطاق واسع ليشمل عددا من القطاعات. ورفع الحظر عن ارتداء الحجاب في العام 2008 بشكل نهائي. وفي هولندا يمنع أعضاء المحكمة من ارتداء الحجاب بحجة حيادية الدولة.
من المؤكد أن ارتداء الحجاب يوحي بهوية دينية محددة، ولكن هل أنه يروج التطرف والإرهاب؟ هذا الادعاء يروجه معارضو المشروع الإسلامي من الغربيين، برغم أن الكنيسة نفسها تقف مع الحجاب. وبعد صدور قرار منع ارتداء «البوركيني» في فرنسا تعمد عدد من الراهبات النزول إلى البحر بلباسهن الكنسي تعبيرا عن التضامن مع المرأة المسلمة المستهدفة في انتمائها الديني. والحجاب الشرعي السائد بين الناس لا يعبر عن التطرف، بل عن الانتماء الديني للمسلمين. ومن المؤكد أن العناصر الإرهابية ستتخذ من الحوادث المرتبطة بالزي الشرعي، ذريعة لممارسة المزيد من جرائم القتل والتدمير. ومشكلة تمدد تيارات العنف والتكفير ليس توسع دائرة الانتماء الديني بل أن ذلك مرتبط بأجندات دول تسعى لتوسيع نفوذها الإقليمي والدولي باستخدام تيارات العنف أدوات ضد مناوئيها. وعلى الغرب أن يكون صادقا مع أطروحاته وشعاراته، وملاحظة عدد من الحقائق: الأولى: أن من حق النساء المسلمات ممارسة حقهن في الحياة ومن ذلك ممارسة الرياضة ضمن قيم الشرع الإسلامي. وكشفت مشاركة فرق نسائية في الدورة الاولمبية التي اقيمت مؤخرا في ريو ديجانيرو البرازيلية أمكان المواءمة بين قيم الدين ومستلزمات العصر. الثانية: أن الغرب يضغط دائما على الوجودات الإسلامية في دوله للانخراط في المجتمعات وعدم التقوقع ضمن دوائرهم الخاصة، والتخلي عن عقلية «الغيتو» التي تشجع الانكفاء على الذات والابتعاد عن المجتمع. وحين تتوجه النساء للسواحل بلباسهن الشرعي، فيجب أن يشجعن على ذلك لتتواصل محاولات التواصل داخل المجتمع الواحد بين مكوناته المتعددة. الثالثة: لو أن المسلمات قررن أن ينفصلن عن تلك المجتمعات وتتجهن لممارسة هواياتهن ورياضتهن ضمن أطر خاصة لوجهت لهن التهمة السائدة بأنهن يرفضن التكامل مع المجتمع. ولو مارسن السباحة في سواحل خاصة بهن لاستهدفن بالنقد والانفصال عن المجتمع. ولذلك فمن الضرورة بمكان السماح لهن بالشراكة المجتمعية مع توفير وسائل المشاركة التي توفر لهن احتياجاتهن المشروعة ضمن الدوائر المجتمعية وليس بانزواء عنها. الرابعة: أن على الغربيين، خصوصا الفرنسيين، أن يكونوا منسجمين مع شعاراتهم ومبادئهم، فيحترموا، بشكل خاص، الحرية الشخصية ويسمحوا للأفراد، رجالا أو نساء، بممارسة حق الاستمتاع بالحياة والشراكة المجتمعية ضمن المحددات الشرعية، دون إكراه أو إجبار أو تشويه. الخامسة: أن التطرف في التعاطي مع احتياجات المسلمين، والسعي لحرمانهم من حقوقهم المشروعة والانطلاق في التعاطي معهم بتعصب أو رفض أو تجاهل، إنما يؤدي لعكس هدفه. والمطلوب أن يكون الانفتاح سيد الموقف وأن تتواصل السجالات الفكرية والأخلاقية لضمان مشاركة المسلمات في المشاريع الاجتماعية.
مطلوب من الاتحاد الأوربي ممارسة قدر كبير من ضبط النفس، والاعتراف بحق المسلمين في الحفاظ على هويتهم الدينية ضمن مشاريع التكامل مع المجتمعات التي يعيشون فيها. ومطلوب أيضا السعي لإقامة مجتمعات متجانسة ومتوافقة على القواعد الأساسية وأهمها الدستور المكتوب والقوانين المنسجمة مع دساتير البلدان وقيمها، والاعتراف بحقوق الأقليات في العيش الكريم ضمن اطر الكرامة والحرية والإنسانية. فان حدث ذلك فسيكون السجال المتواصل أكثر إيجابا وأقل سلبا، وستوصد الأبواب أمام التطرف والعنف. فالغالبية العظمى يؤمن بالإنسانية الكبرى وترفض التقوقع أو الانحناء أمام الواقع المر، أو التخلي عن القيم الدينية المختزنة في أذهان الملايين من البشر.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/08/29