احجبوا مواقعنا.. صادروا صحفنا.. اطردونا من “عربساتكم”.. سنستمر في الكتابة
لندع جانبا الذرائع والحجج التي تستخدمها السلطات السعودية لوقف بث قناة “الميادين” عن القمر الصناعي “عربسات”، الذي يوجد مقر مجلس إدارته في عاصمتها الرياض، وتملك حوالي ثلث أسهمه، ونتحدث عن ظاهرة أكثر أهمية وأخطر، وهي تحول هذه السلطات إلى الجهة التي تقرر من هو موضوعي، ومن هو حر، ومن هو منحاز، ومن هو عدو، ومن هو صديق، ومن هو مهني، ومن هو غير مهني، ومن يجب أن يبقى على “العربسات”، أو “النيل”، أو أي قمر صناعي عربي آخر، ومن يجب أن يطرد، ومن هو المطرب أو المطربة، ومن هو الشاعر أو الشاعرة، ومن هو المبدع، ومن هو غير المبدع.
السعودية ومعظم حلفائها في مجلس التعاون، والتحالف العربي الذي تقوده في اليمن، هو الذي قرر حجب القنوات الفضائية اليمنية التابعة للتحالف “الحوثي الصالحي”، مثلما قرر قبلها إغلاق القنوات الليبية الرسمية لدولة عربية مساهمة في القمر الصناعي نفسه، واتخذ القرار نفسه، وبالأعذار نفسها، لإغلاق القنوات السورية، فممنوع أن يكون هناك رأي آخر، لأنهم يخافونه وكل منابره الإعلامية، مهما كانت بائسة وفقيرة ماليا وفنيا، وهم الذين يملكون الإمبراطوريات وأذرعتها الإعلامية التي تتناسل وتتناسخ مثل الأرانب، وتنفق المليارات لتمويلها.
لا نعرف من أعطى السلطات السعودية هذه القوة، ومنحها هذا “الفيتو”، ولماذا الصمت عليه من دول مثل مصر والعراق والجزائر والمغرب والكويت والأردن، والقائمة طويلة، وبأي حق هي التي تحجب من تشاء وتبقي من تشاء، باسم العرب والمسلمين، والجامعة العربية ومؤسساتها.
السلطات السعودية فعلت، وتفعل، كل هذا، وما هو أكثر، وانطلقت الآن من دائرة حرب التعتيم الإعلامي التي برعت فيها جيدا طوال الثلاثين عاما الماضية إلى التدخل العسكري المباشر، وكل هذا تحت شعار حماية الشعوب، ونشر قيم العدالة الاجتماعية، وترسيخ قيم الديمقراطية، والقضاء العادل المستقل.
نفهم هذا التغول لو كانت الإمبراطوريات الإعلامية السعودية، والأخرى الدائرة في فلكها، قمة المهنية والموضوعية والحيادية، ولا تعتمد أي أجندات خاصة وتحترم الرأي الآخر، ولا تضع قوائم سوداء وحمراء وصفراء لضيوفها، وإذا كنا مخطئين حدثونا لو تفضلتم عن موضوعية “العربية”، ومهنية “الجزيرة” خاصة في الشؤون اليمنية والمصرية والليبية والسورية، أفيدونا حول “اعتدال” وعدم طائفية أكثر من مئة قناة إسلامية تمولها الدول الخليجية، والسعودية منها على وجه الخصوص؟
السبب أو الذريعة التي تستخدمها السلطات السعودية في وقف بث قناة “الميادين” ظهور ضيف إيراني على قناتها تهجم عليها أثناء كارثة الحج الأخيرة، كلام جميل، وعذر مقبول، ولكن من حقنا أن نسأل المسؤولين السعوديين، عما كانوا يتوقعون أن يكون رد فعل المسؤولين الإيرانيين، عن مقتل أكثر من 300 من حجاجهم سحقا تحت الأقدام، واختفاء أكثر من مئتين لم يتم العثور على أي منهم حتى الآن، أو الحصول على رد واضح حول مصيرهم وغيرهم المئات من الحجاج الآخرين من السلطات السعودية؟
هل يتوقع المسؤولون السعوديون من أب مكلوم، أو ابن فقد والده، أو الدته، أو الاثنين، أن يتغنى بالترتيبات السعودية الرائعة والعالية المستوى لموسم الحج، وأن يشيد بحكومة خادم الحرمين الشريفين على رعايتها، وحرصها على أرواح الحجاج؟
مر أكثر من شهرين الآن على كارثة الحجاج، ولم نسمع أو نقرأ حتى الآن رقما حقيقيا موثقا علميا عن عدد الضحايا، أو مصير المجهولين، ولم نقرأ أو نسمع، حتى كتابة هذه السطور، معلومات موثقة عن كيفية حدوث هذه الجريمة، ومن هو المسؤول عنها رغم وجود آلاف الكاميرات، ورغم تشكيل لجنة تقصي الحقائق، وكل ما سمعناه هو إرسال خادم الحرمين برقية تهنئة إلى ولي عهده رئيس اللجنة العليا المشرفة على رعاية شؤون الحجاج وسلامتهم بمناسبة النجاح الكبير لجهوده في هذا الإطار.
اليمن أفقر بلد عربي، وربما في العالم بأسره، يواجه قصفا يوميا، ومنذ سبعة أشهر، من أكثر من مئتي طائرة، من أحدث ما أنتجته المصانع الأمريكية، تلقي بحممها على رؤوس اليمنيين، وتقتل وتدمر كيفما تشاء، وتقصف معامل للحليب وتعبئة المياه وأعراس، وسط حصار بحري وجوي وبري خانق، أوصل أكثر من عشرين مليون يمني إلى المجاعة، وبات خيار المواطن اليمني أما الموت جوعا، او قصفا، نعم.. الحوثيون يقصفون ويقتلون أيضا، ولكن من الذي ذهب إلى حربهم؟ ومن البادي في أشعال فتيلها؟ ومن الذي انفق اكثر من 300 مليار دولار على شراء أحدث الصواريخ والقذائف وأشدها فتكا في السنوات الثلاث الماضية فقط، ويستخدمها حاليا في اليمن؟
ممنوع علينا وغيرنا الكتابة عن كل هذه القضايا بموضوعية، ممنوع أن نردد ما يقوله بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة عن مقتل ما يقرب العشرة آلاف يمني، ممنوع أن نتحدث عن كارثة الحج، ونطالب بمعرفة عدد القتلى، هل هم 760 قتيلا؟ أم 2200 قتيل؟ أم أربعة آلاف؟.. ممنوع أن نتحدث عن أي إهمال أو تقصير.. ممنوع أن نتطرق للتواطؤ العربي مع حلف الناتو، ودوره في تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة، تهيمن عليها الميليشيات المسلحة تماما، مثلما كان ممنوعا علينا أن نتعاطف مع أكثر من مليون عراقي قتلهم الحصار بعد غزو الكويت عام 1990، أو أكثر من مليون بسبب الغزو والاحتلال الأمريكي، وإذا تحدثنا فأننا غير موضوعيين، وغير مهنيين، أو مجوس، وعملاء لإيران، مثلما كنا عملاء لصدام حسين، في نظر أسياد الموضوعية والمهنية، والقيم الديمقراطية، وأصحاب البرلمانات التي لا يوجد لها مثيل في العالم، الذين يبكون دما حاليا على العراق وصدام الذي تآمروا مع الأمريكان على حصارهما وتدميرهما.
لقد طفح كيلنا من غروركم وغطرستكم وعجرفتكم.. استمروا في هذا النهج، ونبشركم بأنكم توحدون الغالبية الساحقة من فقراء العرب، وأصحاب الضمائر الحية ضد أنظمتكم.
احجبونا.. اطرودنا من عربساتكم.. امنعونا من قنواتكم ومطاراتكم.. واشتمونا كما شئتم.. سنظل نكتب ونكتب حتى ولو على الجدران.. وسننتصر دائما للمظلومين العرب، وأولهم شعوبكم.. ولن ترهبونا مطلقا.
المال سيذهب.. وهو في طريقه للذهاب.. وعضلاته ستضمر وتنكمش وتذبل.. والسعيد من اتعظ بغيره.. والأيام بيننا.
الكاتب: عبد الباري عطوان
المقال لصالح صحيفة رأي اليوم.
أضيف بتاريخ :2015/11/07