صعود اليمين المتطرف في أوروبا ينذر باستقطاب حضاري حاد
د. سعيد الشهابي ..
قد لا يكون فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية مشكلة بذاته، ولكن مدلولاته ومؤشراته هي الباعث على القلق من تغير المناخ السياسي العالمي بعيدا عن السلم والأمن الدوليين. ومن أهم تلك المدلولات: صعود ظاهرة اليمين المتطرف في الغرب، خصوصا في أوروبا والتمرد على النخب الحاكمة وتصاعد الشعور بضياع الهوية، وكذلك النزعة نحو الانفصال ورفض النظام السياسي الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يكن ذلك خافيا على المرشح عن الحزب الجمهوري نفسه عندما كان يدير حملته الانتخابية. فقد استقبل نايجل فاراج، مؤسس «الحزب البريطاني المستقل» الذي خطب في الجماهير المحتشدة لدعم ترامب، ثم التقى به في وقت مبكر بعد فوزه. وكانت الأجواء تشير إلى ارتياح التوجهات اليمينية لتقدم ترامب في استطلاعات الرأي العام.
وقيل كذلك إن مرشحة اليمين المتطرف الفرنسي، مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنية التي أسسها والدها، ستكون أوفر حظا في الانتخابات الرئاسية الفرنسية العام المقبل. وثمة مؤشرات لصعود اليمين المتطرف في أوروبا لأسباب عديدة. ففي النمسا تصاعدت حظوظ «حزب الحرية» اليميني المتطرف بشكل غير مسبوق وقد يفوز مرشحه، نوربرت هوفر، في الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل كانون الأول/ ديسمبر. وسيكون ذلك للمرة الأولى منذ سقوط ألمانيا النازية. وثمة صعود متواصل للأحزاب اليمينية في الدول الأوروبية الأخرى بسبب ما وصفه رئيس المفوضية الأوروبية، جين كلاود يونكر بـ «الشعبية المتصاعدة» لتلك الظاهرة. ومن هذه الأحزاب «الديمقراطيون السويديون» و«حزب الحرية» في هولندا الذي يتزعمه جيرت ويلدرز. ويتوقع تصاعد حظوظ حزب «البديل لالمانيا» بزعامة فروك بيتري الذي يرفض التعدد الثقافي في بلده. كما أن حظوظ حزب «الديمقراطيون السويديون» المعارض للاجئين بزعامة جيمي اكيسون تصاعدت في السنوات الأخيرة وقد تكتسح الانتخابات البرلمانية في 2018. وتعمق التوجه اليميني في ايطاليا فأصبحت «حركة النجوم الخمس» التي تأسست في 2009 برئاسة بيبي جريللو، قطبا جاذبا لقطاع شبابي واسع، وقد تقوى حظوظها في الانتخابات المقبلة. وثمة صعود لليمين المتطرف في جمهورية التشيك برئاسة اندريه بابيس، وزير المالية الحالي، تحت شعار محاربة الفساد في أوساط المؤسسة الحاكمة، الأمر الذي يقلق رئيس الوزراء الحالي، رينتزي الذي طرح استفتاء شعبيا لتقليص عدد أعضاء الغرفة التشريعية العليا.
إنها ظاهرة مقلقة جدا ليس للمسلمين فحسب، بل لأوروبا نفسها التي عانت في ظل التطرف اليميني الذي كان ادولف هتلر يمثل مثله الأعلى. هذا الجنوح اليميني لم يوفر الأحزاب الرئيسية التقليدية. وبدلا من العمل للتأثير الإيجابي على الرأي العام وجدت هذه الأحزاب نفسها مدفوعة لمسايرة التطرف اليميني، بالتخلي عن مقولات الثقافات الأخرى وتحملها والاحترام المتبادل والانفتاح والتعددية. وهنا استبدل المبدأ الإنساني بالمصلحة الحزبية الأمر الذي من شأنه أن يؤدي لتفاقم المشكلة وليس حلها.
ما أسباب ذلك؟ وما آثره على أمن العالم واستقراره؟ وهل إنه ظاهرة ثابتة أم مؤقتة؟ يمكن القول إن صعود ظاهرة اليمين المتطرف ناجم عن أسباب تختلف شكلا عن تلك التي دفعت أوروبا لخوض الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن الماضي. وبرغم أن تلك الحروب كانت أوروبية في جوهرها ولكنها جرت العالم معها، فلم تنحصر ميادين الحربين العالميتين بأوروبا بل تم خوضها في المحيط الهاديء وجنوب شرق آسيا وشمال أفريقيا. وحتى منطقة الخليج لم تسلم من شرورها. وما يزال بعض من عاصرها يتذكر سقوط القنابل بالقرب من مصفاة النفط في البحرين مثلا. ولذلك فصعود اليمين المتطرف لن تنحصر آثاره المدمرة ضمن حدود أوروبا، بل سيجر العالم معه في مساعيه الدامية. هذه المرة ستكون المحنة أكبر لأن المسلمين أصبحوا يشكلون مكونا مهما من المجتمعات الغربية. يضاف إلى ذلك أن العلاقات التي تطورت في السنوات الأخيرة بين أوروبا وبعض دول الشرق الأوسط ستجر المنطقة لأي صراع دموي واسع. الأمر المؤلم أن الجنوح نحو العمل الدولي بعد الحرب العالمية الثانية ضمن مؤسسة الأمم المتحدة، لم يلغ أسباب التوترات الداخلية في المجتمعات الغربية وغيرها. وبرغم توافق دول العالم حول حزمة كبيرة من المواثيق الدولية والقوانين التي تنظم شؤون العالم في أوقات السلم والحرب، إلا أن ذلك لم يمنع القفز عليها والانحدار نحو الطرق المؤدية للخلاف وربما الحرب. يضاف إلى ذلك أن تلك الحزمة من المواثيق فقدت بشكل تدريجي أثرها في الحياة العامة. وحتى المؤسسات الدولية التي تشكلت في العقود اللاحقة كمحكمة العدل الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان تراجعت أدوارها. بل أن الأمم المتحدة نفسها تعاني من ضعف في الأداء بعد إخضاعها لابتزاز الدول المعادية لسياساتها. وأصبح الأمين العام للأمم المتحدة فاقدا للسلطة الحقيقية، وخاضعا للضغوط السياسية خصوصا من الدول الغربية. وما تراجعه عن إدراج السعودية على قائمة الدول التي تنتهك الطفل في وقت سابق من هذا العام إلا مؤشر لذلك.
ثمة أسباب لصعود اليمين المتطرف في أوروبا. من بينها تدفق اللاجئين في السنوات الأخيرة خصوصا من الدول العربية والأفريقية، وتوسع انتشار المسلمين في هذه الدول، وتراجع مستويات المعيشة في هذه البلدان نتيجة الأزمات الاقتصادية وتراجع الاقتصادات، والشعور بضمور الهوية الوطنية والخصوصية الثقافية. هذا بالإضافة لدور وسائل الإعلام في بث ثقافة التعصب والجهل والتطرف. ولكل من هذه العوامل أسبابه المرتبطة بالسياسات الغربية وفي مقدمتها التخلي عن القيم المبدئية وعدم الالتزام بروح القانون الدولي والتراخي في الالتزام بالمواثيق الدولية. فمثلا لماذا ظهرت بشكل مفاجئ ظاهرة اللجوء إلى أوروبا؟ أسباب عديدة لذلك أهمها الحروب التي يساهم الغربيون في إذكائها، كما في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا واليمن. هذه الحروب تتوازى معها ظاهرة التطرف والإرهاب المرتبطة بالمجموعات المعروفة خصوصا القاعدة وطالبان وتنظيم «الدولة» (داعش). هذه المجموعات تجد حواضن لها في البلدان المضطربة سياسيا وأمنيا، وهو اضطراب يؤدي إلى تراجع مستويات المعيشة وتفاقم الأزمات الاقتصادية وتوسع الهوة بين الأغنياء والفقراء. إنها ظواهر مرتبطة بالنظام الرأسمالي الذي يهيمن على العالم. ونتيجة هذا التداعي يسعى الكثيرون للبحث عن ملاجئ آمنة خارج أوطانهم. ويزيد من تفاقم هذه الظاهرة غياب الإرادة السياسية لدى الحكومات الغربية خصوصا الأمريكية والبريطانية في التصدي لعلاج الظواهر والتعاطي بشكل جاد مع أسبابها. فالاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والفساد الإداري والمالي لدى النخب الحاكمة في البلدان العربية، يحظى بدعم غربي غير مسؤول وغير مبدئي. وترفض هذه الدول التزام سياسات جادة لترويج قيم الحرية والديمقراطية والتوزيع العادل للثروة وحكم القانون، بل تتعامل مع الاستبداد على أرضية أنه يوفر الاستقرار المطلوب لضمان المصالح الغربية. وهي نظرة ضيقة تؤدي إلى النتائج الحالية وفي مقدمتها تفاقم ظاهرة اللاجئين وتصاعد التطرف والإرهاب. وهذه الظروف ساهمت في تنامي الظواهر المذكورة في العالم الغربي.
إن الجنوح نحو التطرف اليميني في الغرب، وتصاعد التطرف الديني في المنطقة العربية عاملان خطيران من شأنهما أن يؤديا لحروب مستقبلية. وبالرغم من أن صعود دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية يحمل في بعض جوانبه نزعة أمريكية للعزلة، ولكنه ينطوي على أبعاد أخطر تتمثل في تعمق العداء بين الأديان والثقافات وأنماط الحياة. ففي مقابل التطرف الديني في الجانب الإسلامي ينمو التطرف اليميني لينعكس في التعصب والعداء ورفض الآخر والتخلي عن المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان. ويمكن القول إن أول من يدفع فاتورة هذا الاستقطاب الجاليات المسلمة في الغرب. فقد تصاعدت ظواهر الإسلاموفوبيا (التخويف من الإسلام) واستهداف الخصوصيات الإسلامية خصوصا ظاهرة الحجاب، كما تتعرض العقيدة والمقدسات الإسلامية للاعتداء بالتهكم الإعلامي والرسوم الكارتونية والقوانين الموجهة ضد المسلمين ومنها استهدافهم في المعابر بالتفتيش والإهانات، والاعتداء على دور عبادتهم. لا شك أن النزعة نحو التطرف اليميني ظاهرة خطيرة وممقوتة، ولكن من الضرورة بمكان الاعتراف بأن ظاهرة التطرف بين المسلمين سبب آخر لما تعانيه الجاليات. فالأعمال الإرهابية التي حدثت في الأعوام الأخيرة في العواصم الغربية وآخرها في بروكسل وباريس أدت لتعميق الشعور لدى الغربيين بخطر مجموعات التطرف والإرهاب. ولكن يجب الالتفات إلى أن هذه المجموعات ليست نتاجا إسلاميا بحتا، بل ثمة أيد غربية ساهمت في نشوئها، أما بسياساتها المتعجرفة تجاه العالم الإسلامي، أو بتشجيع قوى إقليمية لمواجهة الحركات الإسلامية المعتدلة القادرة على توفير بديل ايديولوجي وسياسي للمشروع الغربي المتداعي في المنطقة والعالم. وستدفع أطراف عديدة ثمن ذلك، بمن فيهم شعوب الدول الغربية التي تستدرج لقبول اليمين المتطرف الذي طالما جرها للحروب العبثية التي دفعت ثمنها بدماء أبنائها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/11/23