معركة “تعطيش” دمشق هل تنسف اتفاق وقف إطلاق النار؟
عبد الباري عطوان ..
من الصعب على أي مراقب، يتابع الشأن السوري منذ بداية الأزمة قبل ست سنوات، أن يتوقع صمود أي اتفاق لوقف النار يتم التوصل إليه، دون حدوث خروقات، طفيفة كانت أو جوهرية، ومن الطبيعي أن يكون الاتفاق الروسي التركي الأخير الذي بدأ تطبيقه عمليا يوم الجمعة الماضي استثناء.
اليوم الثلاثاء أعلنت أكثر من عشرة فصائل سورية معارضة أيدت الاتفاق “تجميد” مشاركتها في مفاوضات السلام المرتقبة أواخر الشهر الحالي في الاستانة عاصمة كازاخستان المقرر نهاية الشهر الماضي، واتهمت قوات النظام بخرق الاتفاق في منطقة وادي بردى خزان المياه الرئيسي الذي يغذي العاصمة دمشق، بينما أعلن تنظيمان لهما وجود قوي في ريف دمشق وهما “جيش الإسلام”، و”فيلق الشام” أن “الاتفاق في حكم المنتهي”.
الحكومة السورية اتهمت قوات المعارضة المسلحة بتلويث مياه النهر بالمازوت، ثم قطع مياهه كليا مما يعني “تعطيش” كل سكان العاصمة، الأمر الذي لا يمكن لأي سلطة السكوت عنه، حسب البيانات الرسمية، وما يضفي المصداقية على هذه الاتهامات اعتراف المرصد السوري لحقوق الإنسان الموالي للمعارضة بإنقطاع المياه، وقال أن ذلك جاء نتيجة تعرض أحدث المضخات في عين الفيحة لانفجار بفعل المعارك بين الطرفين، دون أن يشير بأصبع الاتهام إلى أي طرف، بالوقوف خلف هذا الانفجار، مما يوحي بأن المعارضة الأكثر ترجيحا.
***
المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة حذر بدوره بأن هناك أربعة ملايين شخص في العاصمة ما زالوا محرومين من المياه، الأمر الذي سيؤدي إلى أمراض، وربما وفيات في صفوف الأطفال.
في الحروب هناك قيم وأخلاقيات يتم الالتزام بها من الأطراف المتحاربة كافة، وأبرزها احترام الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمدنيين، ولا نعرف لماذا جرى انتهاك هذه القاعدة في ريف دمشق، وقطع شريان المياه الأبرز الذي يغذي العاصمة السورية، أيا كانت الجهة المسؤولة.
الهدنة تمر بمرحلة حرجة للغاية، ولكن ما يجعلنا أكثر تفاؤلا هذه المرة بإمكانية صمودها بالمقارنة بالاتفاقين السابقين المماثلين، أنه لا يوجد أي بديل لفصائل المعارضة غير الالتزام بها، وعدم الدخول في أي صدامات مع الضامن التركي، لأنه بدون دعم تركيا اللوجستي ربما سيكون من الصعب على هذه الفصائل البقاء.
هناك جهات عديدة جرى استثناؤها من المشاورات التي أدت إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وتملك نفوذا على فصائل في المعارضة السورية، ليس لها مصلحة في نجاحه، وربما تعمل على تخريبه، أو حتى انهياره بالكامل، ونحن نتحدث هنا عن الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الخليج، والسعودية (يعتبر تنظيما جيش الإسلام وفيلق الشام من حلفائها)، وقطر خاصة، وكأن لسان حالها يقول، أما أن أكون طرفا في اللعبة وإلا سأعمل على تخريبها.
الهجوم الذي شنه التحالف الروسي السوري اليوم الثلاثاء على مدينة إدلب، أدى إلى مقتل 25 عنصرا مقاتلا من جبهة “فتح الشام”، “النصرة” سابقا، يعتقد أن من بينهم عددا من قيادات الصف الأول هو رسالة إلى الفصائل السورية المسلحة التي جمدت التزامها بوقف إطلاق النار، والمشاركة في محادثات أستانة.
صحيح أن كل من جبهة “فتح الشام” و”الدولة الإسلامية” لا ينطبق عليهما الاتفاق لأنهما مصنفتان على قائمة الإرهاب، ولكن الصحيح أيضا أنهما على علاقة طيبة مع بعض الفصائل التي توصف بأنها معتدلة، ولعل أهم ما في هذه الرسالة أن معركة إدلب قد تكون بدأت قبل معركة استعادة تدمر، وأن الفصائل لا تبتعد عن هذين التنظيمين ستواجه المصير نفسه، و”فتح الشام” و”أحرار الشام” و”جيش الفتح”، الذي يعتبر الداعية السعودي عبد الله المحيسني أبرز قادته، تتمركز في هذه المدينة باعتبارها ملاذها الأخير.
***
جميع اتفاقات وقف إطلاق النار كانت عبارة عن هدن مؤقتة، للسماح للمتحاربين بالتقاط الأنفاس، وإعادة التموضع، وكسب الوقت، ولا نستغرب أن يكون هذا هو حال الاتفاق الحالي أيضا، مع فارق أساسي وهو أن الضامنين له يملكان أوراق ضغط قوية كل على حلفائه، وأن استعادة التحالف السوري الروسي الإيراني لمدينة حلب بالكامل، وبتواطؤ تركي، غّير الكثير من المعادلات على الأرض في سورية، مما يجعل فرص استغلال هذا التحالف الثلاثي للاتفاق شبه مؤكد.
احتمالات صمود وقف إطلاق النار ما زالت كبيرة، ورغم الخروقات وتبادل الاتهامات، وفصائل المعارضة المسلحة التي جلست على مائدة المفاوضات لأول مرة، بهذه القوة التمثيلية، وتقدمت على معارضات المنفى، لن يكون أمامها أي خيار آخر غير الذهاب إلى الآستانة، فتركيا التي كانت مصدر الدعم الرئيسي لها تعيش ظروفا صعبة، اقتصادية وأمنية وعسكرية، وتفجير اسطنبول الأخير، وانهيار الليرة أحد الأمثلة، والسعودية باتت تعطي الأولوية القصوى لحرب اليمن، وكيفية الخروج من مصيدتها بأقل الخسائر، وتريد التخفيف من العبء السياسي والمالي الذي تفرضه عليها الأزمة السورية والمعارضة المسلحة.
إسدار الستار على فصول الحرب، وفتح أخرى لبدء المفاوضات والحوار، قد يكونا أبرز ملامح المشهد السوري في العام الجديد.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/01/04