تركيا تتراجع بعد أقل من أسبوع عن اتهاماتها لإيران بالطائفية..
عبد الباري عطوان ..
كنا من بين القلة من السياسيين والكتاب الذين استهجنوا التصريحات الهجومية التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، واتهم فيها إيران بالعمل على تقسيم سورية والعراق وتشييعهما، وتتصرف من منطلقات قومية فارسية، وتتبنى سياسات تؤدي إلى زعزعة استقرار المنطقة، ليس حبا بإيران بقدر ما هو حرصا على مصداقية تركيا ومصالحها، وتوقعنا أن يتراجع الاثنان عن هذه التصريحات خاصة بعد الإنذار الإيراني شديد اللهجة الذي ورد على لسان السيد محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، وقياسا على تجارب سابقة، وقراءة متعمقة للمواقف الرسمية التركية في السنوات الست الماضية.
توقعاتنا جاءت في مكانها، ولم يطل انتظارنا لتراجع الرجلين عن تصريحاتهما هذه، فها هو السيد جاويش أوغلو يدلي بحديث لوكالة الأنباء الرسمية الإيرانية (أرنا)، بثتها اليوم الأربعاء، يقول فيها “لن ننسى دعم إيران ووقوفها إلى جانب تركيا، حكومة وشعبا، أثناء الانقلاب الفاشل الذي وقع يوم 15 تموز (يوليو) الماضي، وأضاف “هناك قواسم مشتركة كثيرة بين إيران وتركيا والتعاون القائم بين الشعبين الإيراني والتركي ساهم في تطوير العلاقات الأخوية”، وختم تصريحه “قائلا “البلدان يحتاجان إلى المزيد من التشاور والحوار لترسيخ العلاقات وللحيلولة دون أي سوء فهم”، وهذا ربما يعني زيارة قريبة جدا لطهران منه، أي السيد أوغلو، أو من رئيسه أردوغان.
***
هذه ليست المرة الأولى التي نشهد فيها مثل هذه التراجعات، وهناك مجلد ضخم يوثقها ومثيلاتها، ابتداء من الاعتذار لروسيا، وإعادة العلاقات الإستراتيجية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإسقاط كل الشروط المتعلقة برفع الحصار عن قطاع غزة، وانتهاء بالغزل الحالي بإيران والعلاقات الأخوية معها.
السيد محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، كان حادا، وسريعا، في رده على الرئيس أردوغان ونظيره جاويش أوغلو، عندما قال “إن تركيا جارة ذاكرتها ضعيفة وناكرة للجميل، فهم يتهمون الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالطائفية وكأنهم تناسوا موقفنا في ليلة حدوث الانقلاب العسكري الأخير عندما بقينا نتابع الأوضاع حتى الصباح رغم أن حكومة تركيا ليست شيعية”.
نعم ذاكرة الحكومة التركية ضعيفة وناكرة للجميل، وبسبب ذلك باتت محاطة بالإعداء بدلا من الأصدقاء كما كان عليه الحال قبل عشر سنوات، ولعبت دورا رئيسيا في إشعال الحروب الطائفية، وزعزعة استقرار معظم جيرانها، وسورية على وجه الخصوص، وما زالت تحتل جزءا من أراضيها تحت ذريعة إقامة منطقة آمنة.
فإذا كانت الحكومة التركية ستضطر للاعتذار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وباللغة الروسية، لتجنب شره، ورفع عقوباته الاقتصادية التي فرضها عليها، فلماذا تقدم على إسقاط طائرته قرب حدودها مع سورية، بذريعة اختراقها أجوائها الإقليمية لثوان معدودة، وإذا كانت ستتراجع عن تصريحاتها الاستفزازية ضد إيران، فلماذا تطلقها من الأساس؟
هذه التصريحات “المنفلتة” والتراجعات السريعة عنها، هزت الثقة بالمواقف التركية، وقلصت كثيرا من مصداقيتها، وانعكست سلبا على مكانتها إقليميا ودوليا، وهذا وضع مؤلم لجميع محبيها الذين انبهروا بتجربة حكمها الديمقراطية المبنية على معدلات تنمية غير مسبوقة في ارتفاعها.
***
استقرار تركيا بات مهددا بسبب السياسات التي تتبعها حكومتها، وتحشد الأعداء ضدها، وتوفر الذخيرة اللازمة للإرهاب، وأصحاب النزعات الانفصالية داخل حدودها، فالاقتصاد التركي الذي كان “مفخرة” في ازدهاره في المنطقة والعالم بات يتراجع ويقف على حافة الانهيار، وفنادق إسطنبول، مثلما قال لي صديق زارها الأسبوع الماضي، تكاد تخلو من السياح، والليره التركية تتأرجح بين الهبوط والصعود تحت سقف الأربعة ليرات للدولار الواحد، ومع ذلك يتفنن المسؤولون الأتراك في خلق الأعداء، وخسارة الأصدقاء الواحد تلو الآخر بسرعة قياسية.
الرهان على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المعادي للإسلام والمسلمين، رهان خاسر، والاصطفاف في خندقه ضد إيران أو روسيا أو الصين، مقامرة محفوفة بالمخاطر، قوة تركيا الحقيقة تكمن في علاقاتها الطيبة مع جيرانها، وفتح قنوات الحوار لتسوية كل الأزمات المعلقة، والحفاظ على إرثها الحضاري في التعايش بين جميع طوائفها وأعراقها وتكريس وحدتها الديمغرافية والجغرافية، ونشر هذا الإرث في المنطقة كلها، أما غير ذلك فيعني التفتيت، والحروب الأهلية، والانهيار الاقتصادي، وهذا ما لا نريده لتركيا، أو أي دولة في المنطقة، لأنها ستكون أبرز الضحايا.. والأيام بيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/03/01