تصحيح تعريف المعارضة في قاموس السياسة
علي محمد فخرو
من أنصع التميزات السياسية العربية هي الإصرار الدائم على أن يكون لنا قاموسنا الخاص بفهمنا وتعريفنا لكلمات الآخرين العصرية المتداولة في كل بقاع العالم. نحن نصُر على ذلك على رغم أننا لا نساهم حالياً في إنتاج المعرفة، ولانقوم بأبحاث أصيلة تطويرية في أي من حقول الأنشطة الفكرية والعلمية والتكنولوجية والإدارية الحديثة.
من هنا نظل نراوح في مكاننا على هوامش التعابير العصرية، من مثل الديمقراطية والحرية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان والحداثة والتقدم وغيرها، والاكتفاء بمظاهر تواجدها السطحي في حياتنا العربية اليومية، بل والتلاعب بمضامينها واللف والدوران بشأن ما تتطلبه تلك التعابير من مسئوليات وتغييرات كبرى في مجتمعاتنا.
من التعابير التي نفعل بها كل ذلك وأكثر تعبير المعارضة السياسية. فتعريف المعارضة في قاموسنا العربي، وبالتالي حقوقها ومسئولياتها وعلاقتها بنظام الحكم ووسائل محاسبتها، يختلف في كثير من جوانبه عن التعريف المتفق عليه في قواميس الفكر السياسي الديمقراطي والدول الديمقراطية.
في تلك الدول تعتبر المعارضة جزءاً وجوديا وضروريا لنجاح النظام الديمقراطي. ولايمكن تصور وجود ديمقراطية بدون معارضة تتمتع بكامل الحرية في ممارسة نشاطاتها السياسية، وفي نقدها سلطات الحكم الثلاث، وفي تجييشها السلمي للمواطنين لمعارضة هذا القرار الحكومي أو ذاك، أو لرفض هذا القانون أو ذاك، وفي طرحها فكراً وبرنامجاً سياسياً مخالفاً للفكر السائد، وفي محاولتها القانونية للحصول على الأكثرية في المجالس النيابية أو المجالس العامة الأخرى. وهي تتمتع بحق لا يمس لإقامة الندوات الحوارية والمهرجانات الشعبية السياسية من أجل بثً أفكارها وبرامجها بين المواطنين.
ومن أجل إيصال صوتها إلى الناس يجب أن يكون لها مكان في كل وسائل الإعلام الرسمي، إضافة إلى حقًها في امتلاك وسائلها ومنابرها الإعلامية الخاصة بها. ولا يكتمل دورها إن لم تكن لديها القدرة على الحصول على المعلومات التي تحتاجها وتطلبها من كل الدوائر الرسمية والمدنية المعنية.
وفي السنوات الأخيرة أضيف حق للمعارضة في أن تحصل على دعم لما تحتاجه من خدمات تدريبية واستشارية مماثلة لما تحصل عليه المؤسسات الرسمية.
والواقع أن موضوع المعارضة السياسية أصبح في عصرنا الحديث من أعقد المواضيع في الفكر السياسي، وذلك بعد أن أصبح مطلوباً من المعارضة أن تعبُر عن صوت من لا صوت لهم في مؤسسات الحكم، وأن تتحلُى بالحذر والحيطة والاحتراز في معارضتها الحكومات، وخصوصا عندما يكون الوطن في خطر ومحنة، وأن تكون لدى المعارضة البرلمانية حكومة ظل تتابع كل قرارات الحكومة الرسمية وتنقدها. ونستذكر هنا قولاً لأحدهم «قراءة التاريخ تثبت أن الحرية دائماً تموت عندما يموت النقد في المجتمع». والنقد الموضوعي البناء المتوازن المتدرج هو مهمة المعارضة الأولى والأعلى.
والواقع أيضاً أنه في غياب المعارضة لا توجد عملية سياسية، بل توجد عملية قهر وابتزاز، وبدلاً من حكم محدد بضوابط سيكون هناك حكم مطلق.
من المهم جداً أن نبرز بأن ما يقوله الفكر السياسي الحديث عن ضرورة التناغم والتكامل وقبول الآخر فيما بين الحكم والمعارضة موجودة بذوره في التراث العربي الإسلامي.
فالخليفة عمر بن الخطاب والإمام علي بن أبي طالب، قد قالاها بصوت عال، من أن للأمة الحق في مراقبة الحكم ونقده ومحاسبته، انطلاقا من واجب الأمة في ممارسة الخلافة التي أوكلها الله لعباده.
فعندما قال أحدهم لعمر: « اتق الله ياعمر»، كان جوابه: «نعم ما قال... لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولاخير فينا إن لم نقبلها منكم»، وعمر هو القائل «أيها الناس إذا وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموني».
إما الإمام علي فخاطب الناس بأنه «من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه... فلا تكفُّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي». ذلكما قولان ناصعان يلخصان روح المعارضة عندما يربطانها بكلمات تقوى الله والحق والعدل.
المعارضة في تاريخنا شجعها أناس وضاق ذرعاً بها ونكل بممارسيها أناس أخر.
من المهم الإشارة هنا إلى أن الشرطين الوحيدين اللذين تلتزم بهما المعارضة هما: العمل ضمن القوانين السائدة والموالاة التامة للوطن. فغير مقبول أن تمارس النقد البذيء، إثارة النعرات الدينية أو العرقية، أو العمل مع الخارج ضد مصالح الوطن، أو استعمال العنف، أو ممارسة نشاطاتها بدون شفافية كاملة، أو عدم الإفصاح عن مصادر تمويلها.
وفي حال أن المعارضة ارتكبت الأخطاء فإن الاحتكام هو أمام القضاء، والقضاء وحده، وبشرط وجود قانون حقوقي ديمقراطي معقول يحتكم إليه، وبشرط ألا يكون مصيرها الحل والاختفاء من الوجود. عند ذاك سنعلن وفاة الحرية وموت المسئولية المجتمعية.
قاموس الفكر السياسي العربي وممارسة الحكم في أرض العرب يحتاج أن يراجع تعريفه لمعنى ومسئوليات وحقوق المعارضة السياسية، لتصبح جزءاً نشطاً وفاعلاً ومؤثراً في الحياة السياسية من جهة، ولتتناغم وتكمل وتوازن مؤسسات الحكم. أمام قاموسنا لحظات وأقوال مشعة في تاريخ وتراث الأمة، وأمامه فكر سياسي حديث بالغ الغنى.
صحيفة الوسط البحرينية
أضيف بتاريخ :2017/04/21