تيران وصنافير وصفقة القرن
د. عبد الحميد صيام
في الأول من يوليو تنتقل ملكية جزيرتي تيران وصنافير على مدخل خليج العقبة من مصر إلى السعودية، ويهبط العلم المصري ليرتفع مكانه علم السعودية، وبالتالي تصبح مياه خليج العقبة مياها دولية مقسومة بين دولتين، وينتهي وصف مدخل المضيق بأنه مياه إقليمية تابعة لمصر، تقرر من يدخلها أو يخرج منها، توافق أو لا توافق على مرور ما تشاء من البواخر التجارية والسفن الضخمة، ويصبح الممر المائي مياها دولية تنطبق عليه مجموعة من قوانين جديدة، لا تتحكم فيها أي من السعودية أو مصر.
بهذا التحول يصبح لإسرائيل حق مرور سفنها إلى ميناء أم الرشراش (إيلات) مثلها مثل الأردن في المرور إلى ميناء العقبة. وستتشابك مصالح الدول الأربع، وتجد نفسها تتقاسم المنافع والخدمات والتسهيلات. إذن عملية الانتقال ليست قصة بينية بين مصر والسعودية فحسب، بل ستضع إسرائيل على قدم المساواة مع بقية الدول الثلاث. إنها مقدمة لاستغلال إسرائيل للوضع لصالحها والاستمرار في بناء مشروعين عملاقين: قناة تربط إيلات بالبحر المتوسط وخط سكة حديد تربط إيلات بميناء أسدود. ليس لأحد حق الآن في ما تدخل إسرائيل من معدات ضخة وأجهزة حفر كبيرة من الممر المائي، الذي لن يعود منذ اليوم الأول من يوليو مياها إقليمية مصرية.
تاريخيا كانت الدول الغربية الداعمة لإسرائيل تجادل في أن مضائق تيران هي مياه دولية، وبالتالي ينطبق عليها مبدأ «كورفو» للملاحة في أعالي البحار (قضية أمام محكمة العدل الدولية 1947- 1949). وقد اعتمدت الجمعية العامة على غضب من كل الدول العربية عام 1957 «المعاهدة الدولية للحدود البحرية»، في البند 16 الفقرة الرابعة، التي تنص على حرية الملاحة البريئة (هكذا) في مضائق مائية مرتبطة من جهة بأعالي البحار وحدود بحرية لدولة أخرى». وكان المقصود في هذا إعطاء إسرائيل حق المرور في مضائق تيران، باعتبارها مياها دولية، وهو ما رفضته مصر تاريخيا، وقامت بإغلاق المضائق يوم 21 مايو 1967، الذي اعتبرته إسرائيل إعلان حرب، حيث كانت تتلقى 90 في المئة من وارداتها النفطية عبر خليج العقبة. لقد راجعت العديد من المقالات والكتب والمداولات داخل الجمعية العامة وخارجها، ولم أعثر على ما يشير لتقاسم ملكية مدخل خليج العقبة بين مصر والسعودية. وليراجع من هو مهتم بالموضوع وثائق مؤتمر قانون البحار المنعقد في جنيف عام 1958 والمنشورة في «المجلة الأمريكية للقانون الدولي تحت عنوان: الحق في المرور البريء عبر خليج العقبة الصفحة 564 العدد 53 لعام 1959». وكم أتمنى أن ينشر المسؤولون من البلدين الوثائق، التي لا تقبل الدحض والتي تلجم كل مشكك في ملكية الجزيرتين للسعودية.
ما حدث أغرب من الخيال، ففي يوم 8 أبريل 2016 قام الملك السعودي سلمان بزيارة رسمية لمصر، تم فيها الاتفاق على إعادة الجزيرتين إلى ملكية السعودية مقابل 15 مليار دولار، حيث بدا للكثيرين أن العملية صفقة بيع وشراء لا علاقة لها بإعادة أراض لأصحابها الأصليين، وإلا فالمستعمل للأراضي هو الذي يجب أن يدفع للمالك الأصلي مقابل الاستخدام لمدة طويلة. استغرب الشعب المصري في غالبيته هذا القرار، فخرجت مظاهرات في القاهرة، وتقدم أكثر من ناشط ومحام بدعوى قضائية ضد الدولة لإبطال هذه الصفقة. وقد ربح المحامي خالد علي الدعوى القضائية أمام محكمة القضاء الإداري، التي حكمت ببطلان اتفاقية إعادة الجزيرتين. إلا أن الحكومة عادت وقضت ببطلان قرار محكمة القضاء الإداري، عن طريق محكمة الأمور المستعجلة في أكتوبر 2016، باعتباره تدخلا في شؤون السلطة التنفيذية. وقدمت الاتفاقية للبرلمان المصري واعتمدها، رغم كافة المناكفات بين المعارضين والموافقين، يوم 14 يونيو الحالي ولم يبق إلا ساعة الاستلام والتسليم.
دور إسرائيل في اللعبة
لقد وافقت إسرائيل على صفقة نقل الجزيرتين إلى السيادة السعودية، كمدخل لتطبيع العلاقات مع السعودية، التي بدأت تظهر إلى العلن شيئا فشيئا. فحسب اتفاقية كامب ديفيد، من حق إسرائيل المرور الآمن في خليج العقبة، باعتباره مياها إقليمية مصرية. أما الآن فمسؤولية احترام الاتفاقية لا تقع على عاتق مصر فحسب، بل على عاتق السعودية. فما دام حق إسرائيل بالمرور مضمونا حسب الاتفاقية المذكورة، إذن تنفيذ هذا الحق لم يعد شأنا مصريا، بل شأنا سعوديا. فالصورة القديمة المعممة إعلاميا أن السعودية وإسرائيل عدوان بدأت تتكشف عن عمق العلاقة بينهما، ليس بسبب مصافحة الأمير تركي لنائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون عام 2010، أو زيارة اللواء عشقي لإسرائيل صيف 2016، بل لأن هناك علاقة إستراتيجية لعبت مصر في زمن عبد الفتاح السيسي دورا محوريا في ترتيبها. وتشمل هذه العلاقة رؤية مشتركة في موضوع الإرهاب (الإخوان المسلمون وحماس) والتحالف ضد إيران، وإيجاد حل إقليمي للقضية الفلسطينية يشمل تمكين قطاع غزة اقتصاديا بعد تسليم الراية لحليف البلدين محمد دحلان، الذي سيعطي غطاء فلسطينيا للتطبيع العلني والتحالف الأمني والعسكري والاقتصادي بين مصر والسعودية وإسرائيل وذيولها في المنطقة. ويرى الكاتب البريطاني جوناثان كوك أن تحسن علاقات إسرائيل مع السعودية سيعطيها فرصة لعزل القيادات الفلسطينية في كل من غزة والضفة الغربية، وهو ما سيجبر الطرفين على قبول الحل الإقليمي برؤية إسرائيلية، خاصة مع وجود الغطاء الفلسطيني الذي يتم تأهيله هذه الأيام.
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، مناحيم كلاين، أن إسرائيل تنظر إلى تمتين العلاقة مع مصر والسعودية، في كافة المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية، وتسعى إسرائيل للحصول على دعم الدولتين في فرض رؤيتها لحل المسألة الفلسطينية بما يخدم مصالحها. ويقول كلاين إن العلاقات بين السعودية وإسرائيل يبدو أنها قطعت شوطا طويلا، وتشمل الآن بالإضافة إلى الأمن والاستخبارات والتجارة، قيام إسرائيل بتدريب ضباط من الجيش السعودي.
ومن مظاهر التقارب الإسرائيلي السعودي، عدم اعتراض إسرائيل على صفقة السلاح التي عقدتها السعودية مع الولايات المتحدة بقيمة 110 مليارات دولار، وعدم الاعتراض على بناء جسر طوله عشرة كيلومترات، يربط بين السعودية ومصر قرب خليج العقبة، التي كانت قد عطلت بناءه عام 1988 عندما طرح لأول مرة. وفي حالة إتمام بناء الجسر، بعد تحويل الجزيرتين إلى السعودية تكون معالم التحالف الجديد الذي تلعب فيه إسرائيل القوة العسكرية الأساسية قد اتضحت تماما. وما عزز من هذا التوجه ارتقاء محمد بن سلمان إلى موقع ولي العهد، بعد إزاحة ابن عمه محمد بن نايف. لقد أثلج هذا التحول قلب إسرائيل وتكاد تطير فرحا، لأن ولي العهد الجديد سيجعل من أولوياته التصعيد مع إيران وحلفائها في المنطقة، كما كتب سفير الولايات المتحدة السابق في إسرائيل، ديفد شابيرو.
الصورة الكبرى الآن تبدو واضحة، وهناك إمكانية لوضع كافة قطع الحزورة في أماكنها الصحيحة، بما في ذلك الأزمة التي افتعلتها الدول الخليجية الثلاث ومصر مع قطر، بطريقة مسرحية ذات إخراج رديء وممثلين فاشلين. فالمطلوب الآن شطب أي مصدر تمويل لغزة أو حركة حماس، أو أي وجود فلسطيني يمثل شيئا من الاستقلالية السياسية أو النضالية، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وكي يتم تمرير هذا السيناريو بإقامة إمارة غزة تحت سيطرة دحلان، وبدعم سعودي مصري إسرائيلي لا بد من ربط القطع المتناثرة في الضفة الغربية بالأردن. وقد لا يستطيع الأردن رغم تخوفاته من موضوع تدفق مئات الألوف من الفلسطينيين إلى الأردن، وهو أمر غير مقبول شعبيا، إلا أن الضغوطات السعودية والمصرية من جهة، والحوافز الاقتصادية من جهة أخرى قد لا يستطيع الأردن مقاومتها، حتى لو توفرت الإرادة. ولكي تمر هذه الترتيبات دون تعبئة شعبية ضدها، لا بد من كتم صوت الجزيرة وقلع عيون كاميراتها، التي ما فتئت منذ إنشائها عام 1996 تضع القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها.
أليست هذه صفقة العصر إذن، التي حدثنا عنها دونالد ترامب. ألا نرى أن فصولها بدأت تتكشف أمام عيوننا شيئا فشيئا، ومنها نقل الجزيرتين من ملكية مصرية إلى سعودية ليعبر التطبيع السعودي الإسرائيلي رسميا من تلك البوابة التي ولجتها مصر عام 1979.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/06/30