قراءة لدورتي الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان
د. سعيد الشهابي
يتهم الكثيرون الأمم المتحدة بعدم جدواها وافتقارها للمواقف والسياسات والأدوار الفاعلة، والجميع يتصارع أما للسيطرة عليها أو التأثير فيها. ينطبق هذا على الجمعية العمومية للمنظمة الدولية التي بدأت دورتها السنوية الأسبوع الماضي كما ينطبق على مجلس حقوق الإنسان الذي بدأ دورته السادسة والثلاثين في الوقت نفسه. الانتقادات التي توجه للأمم المتحدة تنطلق من السنة السياسيين الكبار وأولهم الرئيس الأمريكي كما يتفوه بها ضحايا الظلم والاستبداد. وهكذا تبدو المنظمة التي مضى على تشكيلها قرابة السبعين عاما مرفوضة ومرغوبة في الوقت نفسه. الابتزازات للمنظمة تتخذ أشكالا شتى أهمها التهديد بالتوقف عن دفع الالتزامات المالية من قبل الدول الأعضاء.
وقد اعتاد المنبر الدولي في نيويورك جمع الأضداد في دوراته السنوية في مثل هذا الشهر من كل عام. فيعتلي ذلك المنبر الرئيس ترامب ويعقبه الرئيس الإيراني، الشيخ حسن روحاني. وكلاهما يوجه سهامه للآخر ويعتبر ذلك انجازا. ولم يخف البريطانيون انزعاجهم من خلو القاعة من الحاضرين عندما ألقت رئيسة وزرائهم كلمتها التي استغرقت 15 دقيقة التي انتقدت فيها الانسحاب الأمريكي من اتفاقية المناخ. كما لم يخف الأمريكيون امتعاضهم عندما جنح بعض الزعماء للنوم خلال كلمة ترامب ومنهم روبرت موغابي، رئيس زيمبابوي. وبغض النظر عما يقوله المنتقدون فأن اجتماع هؤلاء القادة المتناقضين في سياساتهم وأيديولوجياتهم إنما يؤكد ضرورة وجود هذا المنبر. لكن هذه الضرورة لا تلغي ضرورة أخرى لا تقل أهمية بإصلاحها وتوسيع صلاحياتها، وكذلك إعادة النظر في عضوية مجلس الأمن التي يقتصر أعضاؤه الدائمون على خمس دول فحسب.
`الأمر الذي يتفق عليه الجميع أن الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها تحتاج لإصلاح شامل لكي يكون أداؤها فاعلا. المشكلة أن هذا الإصلاح منوط بإرادة الدول الأعضاء، وبالتالي ستستمر المماحكات في ما بينها بالإضافة للحسابات السياسية لكل منها، وبذلك فأن أي إصلاح مرتقب لن يكون إلا محدودا وشكليا. فالجمعية العمومية تحولت إلى برلمان يخطب فيه الزعماء ولا يتسع لغيرهم، وقراراتها غير ملزمة. أما مجلس الأمن فعضويته محددة بالدول الخمس الدائمة العضوية والدول العشر المؤقتة، وبرغم النداءات الكثيرة لتوسيع عضويته لتكون أكثر تمثيلا لموازين القوى إلا أن هناك رفضا مستمرا لذلك. وواضح عجز المنظمة عن أداء دور فاعل على الصعيد الدولي، خصوصا مع وجود حالة الاستقطاب السياسي في العالم التي تمنع صدور أي قرار لا يقبل به جميع الأعضاء، فحق النقض «الفيتو» يحول دون ذلك.
وتشعر الشعوب بخيبة أمل كبرى عندما ترى فراغا قياديا خصوصا أمام النزاعات والصراعات الإقليمية أو الدولية. فحتى الآن لم يستطع هذا العالم التوافق على موقف موحد لحماية مسلمي ميانمار بالضغط على حكومة ذلك البلد أو فرض عقوبات اقتصادية عليها أو إرسال قوات دولية لمنع الجرائم التي ترتكب يوميا بحق مسلمي الروهينجا. وكانت المنظمة قد فشلت في منع مجازر التطهير العرقي في رواندا ويوغسلافيا السابقة. بل حتى مع تواجد القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة فقد عجزت عن حماية مسلمي البوسنة فحدثت مجزرة سريبرينسا التي راح ضحيتها ثمانية آلاف من المسلمين. وتمثل الحالة الفلسطينية الفشل الأكبر للأمم المتحدة. فقد بدأت المشكلة مع تأسيس المنظمة واستمرت معها حتى اليوم. ولم تستطع حماية الشعب الفلسطيني أو وقف الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه. وما تزال مدينة القدس محتلة برغم اعتراض الأمم المتحدة. وقبل أسبوعين مرت الذكرى والثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها 3000 من الفلسطينيين.
لقد جاء إنشاء المنظمة بعد الحرب العالمية الثانية على أمل أن تستطيع منع الصراعات المستقبلية، ولكن حروبا كثيرة حدثت بدون قرار دولي، ومنها الحرب على العراق التي خاضها التحالف الأنكلو – أمريكي في 2003، وأدت لإسقاط نظام صدام حسين. ويزداد الخطر هذه الأيام بوجود حاكم كالرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الذي يتصرف خارج اطر الدبلوماسية والعمل المشترك.
وبرغم شعور الكثيرين بعدم فاعلية المنظمة إلا أن الاهتمام بدوراتها السنوية لم يتراجع، بل أصبحت الدول تتنافس لتوسيع مشاركتها ووفودها. ويحرص الرؤساء على مخاطبة العالم من على منبر الأمم المتحدة.
وتحاول أمريكا أحيانا عرقلة زيارات الوفود بالامتناع عن إصدار تأشيرات لأعضائها، ولكن بشكل عام لا يمثل ذلك في الوقت الحاضر مشكلة كبيرة. فقد شهدت جلساتها حوادث تاريخية كثيرة. ففي الدورة الـ 15 العام 1960 حدثت بعض الإشكالات مع المترجمين خصوصا خطاب الرئيس السوفياتي آنذاك، خروتشوف، قبيل أزمة خليج الخنازير. كما سجل التاريخ أطول خطاب للرئيس الكوبي فيدل كاسترو الذي استغرق أربع ساعات ونصفا. وفي 1987 أطلق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في خطابه بالأمم المتحدة مصطلح «إمبراطورية الشر» على الاتحاد السوفياتي. وفي الأسبوع الماضي شن الرئيس الأمريكي هجوما على كل من كوريا الشمالية وإيران. وجذب الأمير القطري انتباه الحاضرين عندما ألقى كلمته في 19 أيلول/سبتمبر ووصف الشيخ تميم مقاطعة الدول الأربع بالحصار والغدر والإرهاب وقال انه يعتز بصمود الشعب القطري والمقيمين في الدولة، وأضاف أمير قطر انه يقف بالأمم المتحدة وشعبه يتعرض لحصار جائر مستمر فرضته دول مجاورة، وقال تميم أن الشعب القطري يعتبر الحصار نوعا من الغدر لأنه فرض فجأة وبدون سابق إنذار. هذه أمثلة للاهتمام الذي تحظى به الدورات السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة.
أما مجلس حقوق الإنسان فهو الآخر مثير للجدل والنقد من قبل نشطاء حقوق الإنسان. فعضويته تشمل دولا لها سجلات سوداء في حقوق الإنسان، وقد تراجعت المنظومة الحقوقية منذ تشكيله قبل 12 عاما. لقد توسعت دائرة الانتهاكات من قبل الأنظمة القمعية بعد أن اتضح أن المجلس أصبح تحت سيطرة الدول الأعضاء الـ 47 التي تتضامن في ما بينها لمنع صدور قرارات قوية ضد أي منها. وفي العامين الأخيرين وجهت انتقادات كثيرة للمجلس بعد أن أصبح واضحا أن السعودية المتهمة بانتهاكات واسعة لحقوق مواطنيها أصبحت تمارس نفوذا واسعا على دول المجلس وتحول دون ممارسة دور فاعل للدول التي تنتهك حقوق مواطنيها. وهنا يتكرر المشهد السابق حول الدورة السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة. فبرغم انتقاد بعض الدول للمجلس إلا أنها أصبحت تهتم كثيرا به وتسعى لمنعه من استهداف ملفها الحقوقي. وأستسخف النظام البحريني مجلس حقوق الإنسان على لسان وزير خارجيته الذي هاجم في 13 يونيو 2016 المفوض السامي لحقوق الإنسان زيد بن رعد الحسين، على خلفية تصريحاته عن البحرين في كلمته خلال افتتاح الدورة الـ 32 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قائلا: «لن نضيع وقتنا بالاستماع لكلمات مفوض سامٍ لا حول له و لا قوة». لكنه يمارس ما يناقض ذلك الكلام. ففي الدورة الحالية أرسلت حكومة البحرين وفودا عديدة لحضور دورة المجلس بالعاصمة السويسرية، جنيف. وفي الوقت نفسه منع نشطاء حقوق الإنسان الحقيقيين من السفر إلى جنيف.
هذه الحقائق تكشف أمورا عديدة: أولا ضرورة وجود عمل دولي مشترك يهدف لحماية الشعوب وليس الأنظمة فحسب.
ثانيا: أن هناك حاجة ملحة لإصلاح ما هو موجود من عمل مشترك يتمثل بالأمم المتحدة ومؤسساتها خصوصا مجلس حقوق الإنسان، ثالثا: حماية هذه المؤسسات من التأثيرات السياسية وعمد السماح بابتزازها ماليا كما تفعل أمريكا وبعض دول الخليج. رابعا: أن من الضرورة بمكان تدشين عملية إصلاحية تعيد للعالم توازنه الأخلاقي والسياسي وتمنع القفز على الثوابت سواء بالتهديد أو الابتزاز أو استخدام أساليب القوة العسكرية أو المالية. وأخيرا مطلوب إعادة قدر من المبادئ والقيم والأخلاق للعمل الدولي المشترك لكي يمكن حماية المضطهدين على خلفيات عرقية أو دينية أو سياسية.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/09/25