«إسرائيل» والارتباك الاستراتيجي
ناصر قنديل
– دائماً كانت «إسرائيل» تتميّز عن سائر دول المنطقة بكونها تملك خيارات للتحرك وخططاً للمستقبل، حتى في أسوأ الظروف المحيطة، مع مساحة للحركة النابعة من مصالحها، وليس من إملاءات الخارج عليها. فهامش استقلالها بقي محمياً بمجموعة عناصر تحميها من التبعية التي تعيشها غالبية دول المنطقة للسياسات الأميركية، وحيث توظيف التأثير الأميركي على سياسات هذه الدول يتمّ غالباً لحساب المصالح «الإسرائيلية»، ولم تصب هذه الاستقلالية «الإسرائيلية» النسبية رغم الاعتماد المالي والتسليحي بنسبة كبيرة على المساعدات الأميركية، فقد بقيت الحاجة الأميركية لـ«إسرائيل» قوية عنصر توازن مختل لصالح «إسرائيل»، عندما يقارن بحجم المساعدات الأميركية.
– تبدو المتغيّرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، وتلك التي ستشهدها في السنوات المقبلة، مصدر تحوّلات نوعية في عناصر تشكل البيئة الاستراتيجية التي تتحرّك ضمنها «إسرائيل»، فقد استهلكت أميركا ومعها الغرب وحلفاؤها في المنطقة طاقتهم السياسية والعسكرية والمالية كاملة لفرض تحولات لصالحهم في المنطقة، بصورة لم تحدث من قبل، وكانت النتيجة الفشل. وبالمقابل برزت روسيا شريكاً قوياً وقادراً ينافس الحضور الأميركي ويضمن إزاحته من الموقع الأول في الكثير من الساحات، وبالمقابل صعدت مكانة إيران كقوة إقليمية حاسمة ووازنة، تسجل اقتراباً من لحظة الاعتراف بها كقوة إقليمية أولى تتقدّم على مكانة إسرائيل نفسها، وحلفاء واشنطن الآخرين وخصوصاً تركيا والسعودية. وشكّل هذا العاملان الدولي والإقليمي، لدى اختبارهما في المواجهات التي أدارتها واشنطن وجنّدت لها كل حلفائها، مصدراً لحقائق ووقائع أهمها إعادة تشكيل مشهد إقليمي جديد يكسر الأحادية الأميركية في المنطقة، وبالتالي يُنهي الاستفراد «الإسرائيلي»، ويدفع قوى إقليمية وازنة كمصر وتركيا للبحث عن خيارات ومواقع في الخريطة الإقليمية والدولية تنطلق من نهاية عهد الأحادية الدولية والإقليمية في المنطقة، بينما حذفت من روزنامة الرهانات «الإسرائيلية» فرص القضاء على الأعداء، وفي مقدّمتهم حركات المقاومة، خصوصاً في لبنان وفلسطين، ومعهما سورية.
– في البيئة التي ترسم المشهد الاستراتيجي تغيّرت هوية البحار التي تطلعت «إسرائيل» دائماً للعب دور محوري في أمنها، فالبحر الأبيض المتوسط لم يعد بحيرة أميركية، بل صار أقرب للتحوّل خصوصاً في جناحه الغربي الذي يهمّ «إسرائيل» لبحيرة روسية، والبحر الأسود لم يعد مصر قلق روسي لتشاركه مع عضو في الناتو هو تركيا بات أقرب لروسيا من أميركا، والبحر الأحمر يشهد تموضعاً صينياً في جيبوتي، وحضوراً إيرانياً لا يبدو معرضاً للتراجع بين مضيق هرمز ومضيق باب المندب، بينما يشكّل انتشار الحوثيين في سواحل البحر الأحمر مصدر قلق لا تبدو المؤشرات المقبلة لصالح الرهان على التخلّص منه.
– يبدو خصوم واشنطن وتل أبيب وقد صارت خياراتهم مفتوحة مع تراكم فائض القوة والانتصارات في حساباتهم، ويبدو حلفاء واشنطن مدعوّين لاختبار خيارات جديدة، بدأتها تركيا بالتموضع التدريجي ضمن حلف يربطها بروسيا وإيران، ولا تبدو مصر بعيدة عن تموضع من نوع مختلف، ولكنه في الجوهر يعبّر عن السعي لقدر أكبر من تلبية مصالح الأمن المصري بحسابات مد الجسور مع روسيا، والاهتمام بغزة وليبيا من هذا الموقع المصري الخالص، الذي لا يريح «إسرائيل» ولا يُبنَى على مقارباتها وشروطها، وتلحق السعودية ضمن خصوصيتها أيضاً بالمسارين التركي والمصري على طريقتها، ولو لم تخرج من حلفها مع «إسرائيل»، لكنها تُخضع حركتها أولاً للبحث عن خياراتها الخاصة.
– الحركة على الملف الكردي التي شكلت مع نهاية داعش فرصة لـ «إسرائيل» لخلط الأوراق في المنطقة، وخلق تحديات جديدة وفرصاً جديدة، تحوّلت بعائداتها فعلاً معاكساً للمصالح «الإسرائيلية» فتسارعت بتأثيرها الحركة التركية نحو إيران وروسيا من جهة، وتشكّلت معادلة جيران كردستان بصيغة عقدت فرص اللعبة الكردية، ووضعتها في عنق زجاجة محكمة الإغلاق، وستبدو مشاريع التسوية للملف الكردي مخرجاً وحيداً من الأزمة التي فجّرها مشروع الانفصال، وسيُضطر الأكراد للبحث عن مصالحهم في التسوية، بعدما ذاقوا مرارة العزلة ومخاطر الحصار.
– تعرف «إسرائيل» أن هوامش خياراتها تضيق بعدما فقدت مكانتها كحاجة وقيمة مضافة في الاستراتيجيات الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، في ظلّ الفشل المتكرّر في حروب المنطقة، كما تعرف أن تآكل قوة الردع التي تمتعت بها طوال أكثر من نصف قرن، جعل هوامشها أشدّ ضيقاً، وتعرف أن تغيّر موازين القوى يجعل هوامش الحركة التفاوضية نحو التسويات أضيق أيضاً، وهي طالما كانت وفقاً للتركيبة الخصوصية لمجتمع الاستيطان ضيّقة عندما كانت أميركا أقوى و«إسرائيل» أقوى، والبيئة المحيطة تحت المظلة الأميركية عموماً.
– تعيش «إسرائيل» ارتباكاً استراتيجياً يتمثل بغياب الخيارات الكبرى الواضحة، والاضطرار للقلق من المفاجآت، والعجز عن إطلاق وقيادة مبادرات كبرى سياسية أو عسكرية، أو التحكّم بمسارات المواجهات والتسويات، أو تحمل نتائج المتغيّرات العسكرية والسياسية وامتلاك أجوبة واضحة مطمئنة على الأسئلة الصعبة، والدول العريقة والقوية عندما تعيش حالاً مشابهاً ترتبك، فكيف بالكيان الهجين المولود تحت مظلة التفوّق، وخرافة شعب الله المختار، والعاجز عن التأقلم مع كونه في مرحلة تراجع استراتيجي.
– في ظل هذه الحصيلة، يلقم التاريخ حجراً كل الذين شكّكوا بجدوى منهج الممانعة أمام التسويات التي تلبي التطلعات «الإسرائيلية»، الذي اعتمدته سورية منذ كامب ديفيد، وبقدرته على الصمود، كما كل الذين شككوا بجدوى وقدرة خيار المقاومة على إنتاج موازين قوى جديدة بوجه «إسرائيل»، ومعهم الذين شكّكوا خصوصاً بقيمة المواقف الذي اتخذته إيران من مشاريع الهيمنة الأميركية «الإسرائيلية»، وقدرتها على تغيير المناخ الإقليمي في المنطقة وخلق توازنات ومعادلات جديدة تحكم المنطقة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2017/10/05