العراق بين وعي المرحلة أو الخسارة
د. سعيد الشهابي
كان المطلوب أن يبقى العراق مشغولا بأزماته الداخلية حتى يستحيل عليه استعادة قوامه والحفاظ على حدوده. في البدء كان هناك مشروع التقسيم وفق خطوط التباين الطائفي بعد أن انبرت المجموعات السياسية والإرهابية للتمرد على النظام المركزي، ولما فشل ذلك المشروع ظهر مشروع الدولة الكردية بدعم إسرائيلي مكشوف. وكان من نتيجة خطط تلك القوى أن دخلت امة العرب في نفق ضيق مظلم من التناحر الداخلي والتراجع كان يصعب على الكثيرين تصور الخروج منه. وما تزال هذه الأمة تئن من جراحها الدامية التي شهدت ظهور قيادات غير مؤهلة لقيادة امة ناهضة تسعى للتغيير وتصر على التحرر وتؤمن بالتكامل مع المشروع الإنساني الأوسع، وتتصدى للفساد والانحراف والظلم والاحتلال. وكان المال النفطي أهم سلاح لدى القوى التي عملت لإبقاء ركب الأمة متخلفا عن العالم ومتقوقعا على الذات ومتخليا عن الأدوار المنوطة بالجيل الحاضر الباحث عن الحرية والكرامة.
لقد كان كل ما مر به العراق في السنوات الأربع عشرة التي أعقبت سقوط النظام السابق، موجها لضمان تراجع ذلك البلد وأفول شمسه ومنع تحوله إلى أيقونة تستحق المحاكاة. فبدلا من المشروع الديمقراطي المؤسس على مبدأ «لكل مواطن صوت» فرض على العراق مبدأ المحاصصة التي كانت سببا لمشاكل معوقة للممارسة الديمقراطية والتناحر المتواصل والتدخلات الخارجية. وبدلا من تقوية الدولة المركزية طرح مشروع «الفيدرالية» في محاولة خبيثة لإضعاف البلاد والتمهيد لتحويله إلى كانتونات قائمة على أسس الانتماء العرق والمذهبي. ونتيجة ضعف الإدارة المركزية استشرى الفساد في أوصال الدولة وحال دون قيام كيان سياسي متماسك يحترمه مواطنوه. فالفساد كان قاصمة ظهر مشروع بناء الدولة الحديثة، مدعوما بالأمراض الأخرى التي ذكرت.
ورب ضارة نافعة كما يقال. فإذا كان دخول «داعش» العراق وسيطرته على قرابة ثلث البلاد واقترابه من العاصمة بغداد، قد سجل أكثر نقطة سوداء في التاريخ العراقي الحديث، فأنها ساهمت في إشعال جذوة الشعور الوطني ودفعت البلاد بكافة أطيافها لإعادة النظر في مسيرة العقد الذي سبق ذلك ودفعت الجميع للتكاتف مجددا لمواجهة ذلك التهديد الذي كاد يؤسس للتقسيم. والأمر المؤسف أن ينحاز مفكرو العراق ومثقفوه لحاضناتهم العرقية والمذهبية بدلا من الشعور بالانتماء للبلد العريق الذي احتضن كبريات الحضارات العالمية والذي أسس مبادئ القانون منذ أيام حمورابي. يومها كان تنظيم داعش قادرا على اختراق العراق والسيطرة على ثلث أراضيه، واحتاجت ردة الفعل العسكرية أكثر من أربعة شهور قبل أن تبدأ أولى العمليات الكبرى بمنطقة «جرف الصخر» لتطهير محيط بغداد من الخطر الداعشي. هذه المرة لم تستغرق ردة الفعل العسكرية سوى عشرين يوما للسيطرة على كركوك وكافة المناطق التي وضع الأكراد أيديهم عليها في السنوات الثلاث الماضية (من 25 أيلول/سبتمبر، يوم الاستفتاء على مشروع الانفصال الكردي حتى 15 تشرين الأول/أكتوبر، يوم استعادة كركوك ومحيطها). وهذا يعكس ما أحدثه اختراق داعش الأول في تموز/يوليو 2014 من هزة في عمق الدولة العراقية ومؤسساتها الاجتماعية خصوصا الدينية منها. يومها كان للفتوى التي أصدرها المرجع الديني السيد علي السيستاني، دورها في تأسيس قوة شعبية لمواجهة داعش وفرت دعما للقوات المسلحة وأفهمت الأمريكيين وحلفاءهم أن العراق قادر على الدفاع عن أراضيه حتى بدون دعمهم. هذه المرة كان لفتوى المرجعية الدينية بضرورة الحفاظ على وحدة العراق دورها كذلك في التحرك العسكري الذي استعاد منطقة كركوك واضعف حلم تفتيت العراق. وتبع ذلك فتوى أخرى بضرورة إعادة التلاحم مع المكون الكردي بدلا من استعدائه. ومن غير الأنصاف تجاهل حقيقة مهمة أن القرار الكردي لم يكن حكيما لاعتبارات عديدة ولذلك لم يحظ بإجماع المكونات الكردية، الأمر الذي سهل على بغداد تحقيق اختراق معنوي للحالة الكردية وإنهاء المشروع الذي طرحه مسعود البارزاني. فقد أحدث إصراره على إجراء الاستفتاء تقاربا قويا بين إيران وتركيا والعراق لمنع قيام كيان كردي يؤثر على الدول الثلاث بالإضافة لسوريا.
لقد نجح العراق حتى الآن في تسديد أهداف عديدة بملعب قوى الثورة المضادة التي من بين أهدافها تفتيت المفتت وتقسيم المقسم من هذه الأمة. استطاع تحقيق ذلك على مستويات ثلاثة:
أولها: أنه أوقف مشروع التقسيم بالتصدي لانفصال الكرد في دولة مستقلة.
ثانيها: سدد ضربة قوية للإرهاب الذي تمثله داعش بشكل خاص بعد أن انتزع منها كافة المواقع التي احتلتها قبل أكثر من ثلاثة أعوام.
ثالثها: أنه تصدى للطائفية وأفشلها كمشروع بديل لوحدة الأمة. وقد ساعدت تلك القوى العراق في مهمته. فالسياسات السعودية التي روجت الطائفية والتطرف ودعمت الإرهاب وتصدت لمشاريع التغيير بضرب الربيع العربي، أخفقت في حراكاتها ومبادراتها سواء في العراق أم في الإقليم. وعندما كان سفيرها، ثامر السبهان، يتصرف في بغداد وكأنه الحاكم الفعلي لذلك البلد، كانت تصرفاته تثير الاشمئزاز لدى قطاعات عراقية عديدة، الأمر الذي أفشل مهمته وأعاده إلى السعودية. الأمر الثاني أن التحالف الرباعي بقيادة السعودية الذي استهدف قطر ساهم في إضعاف موقف قوى الثورة المضادة وأظهرها عاجزة أمام بلد صغير عن تحقيق أهداف خطتهم ضد قطر. لقد أصيبت الرياض وأبوظبي والقاهرة والمنامة بضربة موجعة بعد أن ظهر استحالة نجاح مشروع التصدي لقطر. ومع الإخفاقات المتكررة في العدوان على اليمن الذي تشارك فيه الإمارات ومصر والبحرين بجانب السعودية، وتصاعد الدعوات الدولية لوقف العدوان والتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبت، أصيبت الحكومة السعودية بالارتباك فاتخذت خطوات غير مسبوقة تجاه العراق واستقبلت مقتدى الصدر وتستعد لاستقبال رئيس وزراء العراق هذه الأيام.
وترتكب الحكومة العراقية خطأ كبيرا بالتماهي مع السياسات السعودية الجديدة التي لم تكن لتحدث لولا إخفاقاتها في المحاور الأخرى. التوجه السعودي تجاه العراق جاء هذه المرة من موقع ضعف وتراجع، لأن حظوظ السعودية في بؤر الصراع التي ساهمت في إذكاء نيرانها، تراجعت كثيرا. فهي عاجزة عن حسم الحرب على اليمن، ولم يؤد تدخلها في البحرين لتغير جوهري في موازين القوى أو إخماد المعارضة للنظام الحاكم، كما أن تدخلاتها المباشرة في سوريا والعراق لم تحقق أهدافها. وحتى أنفاقها مئات المليارات لاستجداء الدول الغربية لم يوفر لها حماية من النقد المتواصل من قبل الرأي العام ومؤسسات المجتمع المدني الغربي. وهكذا توجهت السعودية نحو العراق «هروبا إلى الأمام» ومحاولة لتعويض ضعف موقفها داخل مجلس التعاون الخليجي الذي بدأ يتراجع. وهناك امتعاض على الصعيد الشعبي العربي من التقارب السعودي ـ الإسرائيلي، خصوصا مع تصاعد التآمر الإسرائيلي على شعوب العرب مع تصعيد سياساته التوسعية ببناء المزيد من المستوطنات وتهويد مدينة القدس واستهداف المسجد الأقصى بالاقتحامات اليومية. السعوديون يسعون لاستغلال البوابة العراقية لإعادة التموضع السياسي في المنطقة بعد أن تلاشت بؤر تأثيرها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/10/23