غياب القيم والمبادئ يعمق نزعات التقسيم
د. سعيد الشهابي
الوحدة والتقسيم ظاهرتان عاصرتا نمو المجتمع الإنساني منذ القدم، وما تزالان تتحديانه في القرن الحادي والعشرين. هذا برغم الحديث المتواصل عن تقدم الإنسانية ووعيها وبلوغها مستويات عليا من النضج الأخلاقي والسياسي، وبرغم الفرضية القائلة بأن الإنسانية «عائلة واحدة»، وتأكيد القرآن الكريم على ذلك : «كان الناس أمة واحدة»، وقول الإمام علي بن أبي طالب: «الناس صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
وبرغم مشاعر الإحباط، فما تزال قيم الوحدة معشوقة الجماهير في كل مكان في الجانب النظري على الأقل. فلا أحد يعشق الفرقة والتمزق والشتات. ولكن المشكلة أن من يعمل لتمزيق الوحدة أنما يطرحها ممزوجة بقيم «المصلحة» أو «الحفاظ على السلم الأهلي» وغير ذلك.
ويمكن القول أن نهاية الحرب الباردة توجت بحدث فريد من نوعه: توحيد شطري مدينة برلين الألمانية وهدم الجدار الذي فصلهما 27 عاما. غير أن هذه الوحدة لم تكتمل بعد، فما تزال مشاعر الماضي تفرض نفسها على سكان تلك المدينة، وما تزال التقارير تتحدث عن حواجز نفسية ومشاعر الإحباط. وما أكثر محاولات لم شمل الشعوب التي مزقتها الحروب والخلافات السياسية.
فاليمن الذي فرقته أطماع أهله وأعدائه، طالما تلهف لوحدة شطريه، وقد تحققت تلك الوحدة برهة، ولكنها سرعان ما تعرضت لانتكاسات سياسية ونفسية. وها هو اليمن اليوم يتعرض لاحتلال غاشم يعمل حثيثا لتمزيقه ليس شمالا وجنوبا فحسب، بل وفق أسس التمايز الأخرى كالقبلية والمذهبية. وقد ارتفعت الأصوات المطالبة بانفصال الجنوب عن الشمال خصوصا بعد أن سيطرت دولة الإمارات العربية على عدن، وانتشرت المجموعات المسلحة في حضرموت ومناطق أخرى. وقصة اليمن واحدة من التجارب المرة التي يمتزج فيها القليل من الأمل بالكثير من الإحباط.
ظاهرة تمزق الأوطان أصبحت تهدد المجتمعات الإنسانية في مناطق شتى. ولم تسلم منها الدول المحكومة بـ «الديمقراطية». فما تشهده إسبانيا في الوقت الحاضر من نزعات انفصالية أصبح يهدد ذلك البلد الذي ما ان بدأ طريقه للخروج من ازمته المالية العاصفة حتى برزت نزعات الانفصال. وعندما صوت سكان إقليم كاتالونيا الشهر الماضي على الانفصال وتحقيق ما يعتبرونه «استقلالا» أصبحت إسبانيا مهدا للاحتجاجات الصاخبة التي اكتنفتها مشاهد عنف غير مسبوقة. ولتأكيد سلطة الحكومة المركزية أصبح هناك استهداف لقادة الانفصال الذين كانوا يحكمون تلك المقاطعة.
الأزمة هذه المرة تتجاوز الحدود الإسبانية لتشمل الاتحاد الأوروبي. هذا الاتحاد رفض نزعة الانفصال ولكنه أصبح مطالبا بمواقف قد تتناقض مع قيمه وسياساته، فهناك ضغوط على بلجيكا لتسليم قادة الانفصال الذين لجأوا اليها مؤخرا بعد أن أصدرت الحكومة المركزية قرارات باعتقالهم ومحاكمتهم. كاتالونيا تحولت إلى بالون اختبار ليس للوحدة الإسبانية فحسب بل لبقية الدول التي تعاني من نزعات انفصالية خطيرة. وبلجيكا التي أصبحت طرفا في الصراع الإسباني، تعاني هي الأخرى من دعوات انفصالية قديمة.
ويمكن القول أن بريطانيا هي البلد الأوروبي الآخر الذي يؤرقه شبح الانفصال والتفتت، لأسباب عديدة. فالأزمة الإيرلندية التي يفترض أنها قد حلت تمثل شبحا دائما لا يغيب عن الحياة السياسية.
فمثلا فاز حزب «شن فين» الذي يعتبر الجناح السياسي للجيش الإيرلندي الشمالي فاز في الانتخابات البرلمانية الأخيرة بسبعة مقاعد، ولكن أعضاءه لا يحضرون جلسات البرلمان البرلماني لاعتراضهم على قسم الولاء والطاعة للملكة، مع احتفاظهم بحقوقهم الأخرى.
كما أن جمهورية إيرلندا نفسها عضو بالاتحاد الأوروبي ولكنها قلقة جدا بعد القرار البريطاني الانسحاب منه، لأنها ستواجه قضية الحدود بينها وبين بريطانيا بعد اكتمال إجراءات الانسحاب. يضاف إلى ذلك وجود رغبة جامحة لدى قطاع واسع من سكان مقاطعة اسكتلاندا بالاستقلال والانفصال عن بريطانيا.
ومع أن الاستفتاء الذي أجري أكثر من عامين لم يحقق الأغلبية لدعاة الانفصال إلا أن شبحه ماثل أمام الساسة البريطانيين، خصوصا أن الحزب الاسكتلاندي الأكبر بزعامة السيدة نيكولا ستيرجن يتبنى مشروع الانفصال ويهدد باستفتاء جديد.
وما لم يحسم مستقبل اسكتلاندا وإيرلندا الشمالية فمن المتوقع بروز مطالب أخرى بانفصال ويلز وربما كورنوول أيضا. هذه النزعة للانفصال لها أسبابها التي من بينها الشعور بتهميش ثقافة شعوب تلك الأقاليم وغياب التوزيع العادل للثروة وكذلك التهميش السياسي.
وفيما يستذكر العالم هذه الأيام الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم، فأنه استحضر أيضا تبعات ذلك الإعلان ليس على صعيد فلسطين وأهلها الذين دفعوا ثمن ذلك الإعلان باهظا بل على المنطقة كلها. الفلسطينيون قدموا آلاف الشهداء، وفقدوا أرضهم، وطردوا من أوطانهم. والأشد إيلاما ان بريطانيا التي أسست لذلك لم تكتف بالصمت بل احتفت بالذكرى المشؤومة واستضافت واحدا من أبشع رموز الاحتلال، وتعاملت معه كرجل دولة متجاهلة أنهار الدماء التي أسالها وما يزال يفعل.وقد ساهمت الأمم المتحدة في صناعة الأزمة الفلسطينية.
فبعد ثلاثين عاما على صدور إعلان بلفور، أصدرت تلك المنظمة قرارها رقم 181 عام 1947 الذي تبنّى خطة تقسيم فلسطين القاضية بإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم أراضيها إلى 3 كيانات جديدة، كالتالي: دولة عربية: تبلغ مساحتها حوالي 4.300 ميل مربع (11.000 كـم2) ما يمثل 42.3٪ من فلسطين وتقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر. دولة يهودية: تبلغ مساحتها حوالي 5.700 ميل مربع (15.000 كـم2) ما يمثل 57.7٪ من فلسطين وتقع على السهل الساحلي من حيفا وحتى جنوب تل أبيب، والجليل الشرقي بما في ذلك بحيرة طبريا وإصبع الجليل، والنقب بما في ذلك أم الرشراش أو ما يعرف بإيلات حالياً. اما القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة فتبقى تحت وصاية دولية. وبعد سبعين عاما على صدور قرار التقسيم ما يزال الفلسطينيون محرومين من وطنهم ودولتهم، في ظل نظام دولي جائر يساند القوي ويتخلى عن الضعيف.
تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ، ذلك هو المشروع الغربي في المنطقة العربية، ماضيا وحاضرا. قبل ستة أعوام قسم السودان إلى بلدين، ومنح جنوب السودان استقلالا عن شماله بعد حروب استمرت عقودا، أثيرت فيها النزعات العرقية والدينية. كان ذلك عقابا للسودان على سياساته التي أعلنت تطبيق الشريعة وأصبحت محسوبة على تيار الإسلام السياسي، برغم أن حاكمه ضابط وصل للسلطة بإنقلاب عسكري على حكومة منتخبة في 1989.
وتواصلت الضغوط على ذلك البلد، وتم التلويح بورقة دارفور التي شهدت حربا طاحنة منذ العام 2003 وقتل فيها مئات الآلاف. ولتفادي ذلك غير السودان في السنوات الأخيرة سياساته الخارجية وتقارب مع الغرب، خصوصا بعد ان أصدرت محكمة الجنايات الدولية قرارا باعتقال الرئيس عمر البشير. هذا القرار أصبح لاغيا بعد أن تقارب البشير مع السعودية وأمريكا، وقطع علاقاته مع إيران. مع ذلك سيظل سيف التمزيق مسلطا على السودان، كما على غيره من البلدان العربية الكبرى كمصر وسوريا والعراق. فطرح قضية أكراد العراق بالشكل والزخم الأخيرين يؤكد رغبة الغرب في اللعب على التناقضات واستغلالها لتمكين وجوده السياسي والعسكري في المنطقة. وعندما تصرفت الحكومة المركزية بحزم تم احتواء مشكلة انفصال الأكراد عن العراق، وبالتالي تم تجميد مشروع تقسيم الدول التي تضم جاليات كردية كبيرة مثل سوريا وتركيا وروسيا وإيران.
ما مستقبل التوجهات الانفصالية؟ إذا استمر العالم بلا قيادة وبدون قيم أخلاقية تحكم مساره، فستتصاعد نزعات الانفصال والتفتت، أما إذا أصبح هناك نظام عالمي مركزي يتمتع باذرع ضاربة وقيم أخلاقية وإنسانية عميقة، فمن المتعذر حدوث تصدعات كبرى في الكيانات السياسية القائمة. وبرغم استسخاف مقولة وحدة الأمة، إلا أنها تظل الضامن الاقوى لوقف مسلسل التصدع والانفصال وتتضاءل دوافع الكيانات الصغيرة للاستقلال. عندها تتعمق بذور الانتماء والوحدة والتقارب بدلا من التصدع والتمزق والتفتيت.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/11/06