فرصة ذهبية لـ «وطنية لبنانية» مفقودة
ناصر قنديل
في لبنان الممزّق طائفياً والموزّع بولاءات أبنائه على زعامات وحسابات طائفية يصعب الحديث عن وطنية لبنانية صافية تعبر فوق الطوائف وداخلها، وقد ثبت مع الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان قبل عقود سهولة العبث بالنسيج الطائفي اللبناني لإضاعة فرص ظهور وطنية لبنانية جامعة، في ذروة اللحظات التي تستحضر هذه الوطنية في بلاد طبيعية. وهي لحظة التعرض لعدوان أجنبي. وتكررت الحالة عام 2006، بوجوه وعناوين جديدة.
لعبت الشخصية القيادية للعماد ميشال عون وميزاته الشخصية كالمناقبية والفروسية والشجاعة والمصداقية، في كسر جموح جانب هام من العصبيات المدمّرة طائفياً للبنان، بتلاقيه مع المقاومة وقائدها السيد حسن نصر الله. هذا اللقاء الذي توّج بتولي العماد عون لرئاسة الجمهورية. وكشفت السنوات التي مرّت بين لقاء العماد عون والسيد نصر الله أن العقدة الطائفية التي سجلت تراجعاً كبيراً لحساب حضور حاد للمذهبية القاتلة، منحت لبنان توازناً جديداً بوجه أخطار الانفجار السياسي والطائفي، لكنها لم تخرجه من كابوس الفتن، وأن ساعة تبلور وطنية لبنانية صافية عابرة للطوائف لا تزال بعيدة المنال. ومثلت الحرب مع الإرهاب التكفيري وقتال حزب الله في سورية بوجه هذا الإرهاب ذروة الانكشاف اللبناني أمام العبث المذهبي بالنسيج الوطني اللبناني.
تبلورت مع التسوية الرئاسية التي جاءت بالعماد عون لرئاسة الجمهورية وبالرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة فرصة لتهدئة الفوران المذهبي، ومنح اللبنانيين فرصة لتنافس هادئ للمناخات السياسية، رغم تداعيات الخلاف حول الحرب في سورية والمواجهة مع الإرهاب، وتزامن ذلك مع انقلابات نوعيّة في موازين القوى الدولية والإقليمية والمحلية لحساب المقاومة وحلفائها، من دون أن يرتّب انقلاباً موازياً في حسابات الطوائف ومكانتها وأحجامها وأدوارها، وبينما تعاملت المقاومة مع التسوية الداخلية كمنتج وطني يستحق الصيانة لذاته، تعامل الخارج الدولي والإقليمي المحيط برئاسة الحكومة وفي مقدّمته السعودية، مع هذه التسوية كبيئة مناسبة لتصفية حساب مع حزب الله، ولو على حساب الحليف المحلي في رئاسة الحكومة، ولم يكن خافياً التضارب في الحسابات والمواقف مع تباين حركة الرئيس الحريري الداخلية وتغريدات الوزير السعودي ثامر السبهان، التي بلغت وقاحتها حدود وصف الحريري ومَن معه بـ «الجبناء» قبل أسابيع.
احتجاز السعودية للحريري صار ثابتاً، والإهانة التي يمثلها هذا الاحتجاز لمؤيديه وطائفته وموقع رئاسة الحكومة، وبأيدي السعودية صار جزءا من الذاكرة اللبنانية، لن يلغيه أي كلام يقوله الحريري بعد إطلاق سراحه دفاعاً عمّا قاله السعوديون بلسانه ونفياً لحقيقة إذلاله وإهانته واحتجازه، والجرح العميق بين السعوديين والشارع الذي لعب به السعوديون مذهبياً بوجه المقاومة، لم يعُد ممكناً ردمه، ولو استعاد السعوديون بعض هذا الشارع، إلا أن وحدة مذهبية متراصة وراء الموقف السعودي باتت مستحيلة، وبالمقابل شكّل الأداء المشترك لحزب الله ورئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي، احتضاناً تحتاجه طائفة رئيس الحكومة لاسترداد الشعور بالوطنية التي تؤمن الدفء في اللحظات القاسية، ما سيجعل التعامل بروح العدائية مقيّداً بهذه اللحظة التاريخية النادرة.
يحدث ذلك بينما الحسابات المصلحية لكثير من السياسيين الذين يقيسون درجة الشجاعة السياسية بالمصلحة وموازين القوى، فرصة للتصرف والتحرك والتحدث بدرجة أعلى من الاستقلالية عن السعودية، خلافاً للسابق، والسبب أنهم يرون مملكة الرمال تغرق، وأن اللاعب الروسي يصير متقدماً على الأميركي، ويرون اللاعب الإيراني متقدماً على اللاعبين «الإسرائيلي» والسعودي، ويستاءلون لماذا يكون التركي أشدّ ذكاءً منهم فيتموضع على ضفاف الأقوياء والمنتصرين؟
المسألة لا تتصل برهانات وأوهام على كيف يتصرّف هذا أو ذاك غداً، بعدما تنتهي الأزمة الراهنة، بل بلحظة تاريخية نادرة في حياة اللبنانيين ترسّخ فعلها موازين قوى آخذة في التصاعد، تشكلان معاً فرصة نادرة لوطنية لبنانية مفقودة.
الأمر لا يختصّ بلبنان وحده بل هو قابل للتعميم.
أفول الحقبة السعودية «الإسرائيلية» حدث تاريخي كبير.
موقف النائب وليد جنبلاط يشابه موقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. والأمر ليس صدفة، أن يصير خطاب السيسي مصرياً أكثر، ويصير خطاب جنبلاط لبنانياً أكثر، وتصير كتلة المستقبل وطنية أكثر.
صحيفة البناء.
أضيف بتاريخ :2017/11/11