سجن ملاديتش نقطة مضيئة في عالم مظلم
د. سعيد الشهابي
أكثر من عشرين عاما انقضت قبل أن يلقى الجنرال الصربي، راتكو ملاديتش، جزاءه القانوني بالسجن مدى الحياة عقابا لارتكابه «جرائم حرب» وإبادة في حرب البوسنة في النصف الأول من التسعينيات. وسبقه عدد من القادة الصربيين الذين اعتقلوا وحوكموا أمام المحكمة الدولية الخاصة بالبوسنة والهرسك، أهمهما الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوسوفيتش ورئيس صرب البوسنة، رادوفان كاراديتش. ومع أن سجن هؤلاء لا يلغي آثار الجرائم التي ارتكبوها إلا أنه رسالة مهمة لمرتكبي جرائم الحرب. وسبق أن سجن عدد من مرتكبي جرائم الحرب والإبادة في رواندا، وكذلك الكونغو. كما أصدرت محكمة الجنايات الدولية حكما باعتقال الرئيس السوداني، عمر البشير، الذي اتهم بارتكاب جرائم مماثلة في درافور، ولكنه ما يزال طليقا. الرسائل الإيجابية التي تبعثها هذه الإجراءات الدولية عديدة: فهي أولا تعبير عن إرادة دولية لمنع ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ثانيها: إثبات نفاذ القانون الدولي وفاعليته في التصدي لهؤلاء، ثالثها تأكيد ضرورة الاستمرار في تفعيل المواثيق الدولية التي تنظم مسارات الحرب والتعامل بين البشر، ليس في حالة السلم فحسب، بل عند الاختلاف والحرب. رابعها: إعادة قرع الأجراس لتصل آذان أنظمة الاستبداد والظلم بأنهم محكومون بهذه القوانين فعليهم مراعاة سياساتهم وعدم الخروج عن الحدود.
السؤال هنا: هل هناك حقا إرادة دولية محايدة لاستهداف مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة أم أن السياسة تلعب دورها في ذلك وتؤدي إلى انتقائية في التعامل بأنماط متباينة مع مرتكبي تلك الجرائم؟ الأمر المؤكد أن الحرب العالمية الثانية كانت محطة مهمة في التاريخ البشري المعاصر، نجم عنها شعور لدى القوى الكبرى التي شاركت في تلك الحرب بضرورة منع تكرر ما حدث على جبهاتها، وتنظيم إجراءات الحرب ومنع ارتكاب بعض الجرائم كاستهداف المدنيين أو منع تطبيب الجرحى أو قتل الفارين أو سوء معاملة أسرى الحرب أو المنشآت المدنية والإنسانية أو استخدام الأسلحة المحرمة دوليا. وشهدت السنوات التي أعقبت تلك الحرب نشاطا محموما في مجال التشريع لتنظيم مسارات الحروب وبلورة إرادة عالمية لتنفيذ الاتفاقات الدولية. وقد نشطت الأمم المتحدة التي كانت قد تشكلت بعد انتهاء الحرب مباشرة، في مجال تشريع المواثيق التي تنظم الحرب والسلام. ونظرا للمعاناة الكبيرة التي مرت بها شعوب العالم خلال تلك الحرب المدمرة، كان الحماس لاستصدار تلك التشريعات كبيرا، فصدرت مواثيق جنيف التي تنظم مسار الحرب، وتم إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وصدرت تباعا قوانين دولية تنظم مسار المجتمعات وتحمي حقوق الأفراد، وطرحت منظومة حقوق الإنسان كتعبير عن الرقي والتقدم في مجال القيم والأخلاق والعلاقات الإنسانية. وتوسعت أدوار الأمم المتحدة بإرادة جماعية فأنشئت منظمات كثيرة تعنى بهذه الشؤون ومنها منظمات الإغاثة ومؤسسات المجتمع المدني. ويمكن القول إن نصف القرن الذي أعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية كان من أغنى الحقب الإنسانية في مجال سن التشريعات التي تمثل بمجموعها ما يسمى «القانون الدولي».
غير أن الوضع تغير كثيرا في العقدين الأخيرين، فقد حدثت حروب شرسة بعضها بلا دعم دولي. وتصدرت الولايات المتحدة المشهد الحربي عندما قادت التحالف الذي استهدف «تحرير الكويت» من القوات العراقية في 1991، ونجم عن ذلك ما يمكن اعتباره «جرائم حرب» خطيرة كاستهداف القوات العراقية المنسحبة في منطقة المقلاع، واستهداف الملاجئ مثل ملجأ العامرية. وأعقب الحرب فرض حصار على العراق استمر اثني عشر عاما، أدى لموت الكثيرين وفي مقدمتهم الأطفال. وكان من نتيجة تلك الحرب تشجيع الآخرين على شن الحروب وارتكاب المجازر. فجاءت حرب البوسنة والهرسك في النصف الأول من التسعينيات، وتبعتها مجازر رواندا، ثم حدثت الحرب الثانية على العراق في 2003.
وجاءت أزمة دارفور التي ارتكبت فيها جرائم حرب واسعة. وحدثت الفظاعات الإسرائيلية خلال تلك الحقبة. وأكد تقرير الأمم المتحدة حول مجزرة قانا الأولى التي حدثت في 1996 أن الإسرائيليين قصفوا اللاجئين في مقر الأمم المتحدة وقتلوا أكثر من مئة شخص، الأمر الذي يعتبر جريمة حرب. وعندما اجتمع أعضاء مجلس الأمن للتصويت على قرار يدين «إسرائيل” أجهضت الولايات المتحدة مشروع قرار يدين «إسرائيل» باستخدام حق النقض الفيتو. وليس جديدا القول إن موقف الإدارة الأمريكية منحاز تماما لـ «إسرائيل» تجاه العرب حتى حين ترتكب جرائم حرب. وقد حدثت محاولات عديدة لمحاكمة قادة إسرائيليين أمام القضاء الدولي ولكن بدون طائل لأن الإرادة الدولية لمحاكمة الإسرائيليين غير متوفرة. وهنا يمكن اعتبار وجود مجلس الأمن الدولي بشكله الحالي معوقا أمام القضاء الدولي، فما لم تتفق الدول الخمس دائمة العضوية على موقف موحد إزاء أي قضية فلن يكتب لها النجاح لأن أيا من هذه الدول قادر على استخدام حق النقض «الفيتو» لإفشال أي قرار بشأنها.
للوهلة الأولى يبدو أن المجتمع الدولي قد قطع خطوات كبرى إلى أمام في مجال الحريات وحكم القانون والتمسك بالقيم الإنسانية في حالتي الحرب والسلام. ولكن هل هذه حقيقة؟ هنا تطرح مقولة «المصلحة» كواحدة من كبريات الذرائع لتحييد القوانين الدولية وتفعيل القيم المذكورة. فزعماء العالم يستخدمون هذا العنوان لتبرير مواقفهم المتقاعسة إزاء تطبيق القوانين الدولية. وثمة أمثلة كثيرة لذلك. الأول: إن الحرب على اليمن مستمرة منذ أكثر من ثلاثين شهرا، وقد أكدت التقارير العديدة أن القانون الإنساني الدولي قد تم اختراقه مرارا، فمنع وصول الدواء والغذاء وأغلقت كل المنافذ، كما استهدفت منشآت مدنية كثيرة كالمدارس والمستشفيات والأسواق والفنادق والقاعات الكبرى، وقتل أكثر من ألفي طفل من بين أكثر من 10 آلاف من الضحايا المدنيين. لقد ارتكبت جرائم حرب على نطاق واسع، مع ذلك فليس هناك أي موقف دولي مسؤول يطالب أولا بوقف الحرب فورا، وثانيا: اعتبار غلق المنافذ ومنع وصول الغذاء والدواء جريمة ضد الإنسانية، وثالثا: إن استهداف المنشآت المدنية وقتل المدنيين جرائم حرب خطيرة. وبرغم المطالبة بتشكيل محكمة خاصة باليمن على غرار محاكم رواندا والبوسنة والهرسك، فقد وقعت تلك المطالب على آذان صماء، ولذلك تستمر الحرب بدون توقف. فلو اعتقد حكام السعودية بوجود نية حقيقية لتفعيل المواثيق الدولية والتصدي لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لأوقفوا الحرب فورا. ولكنهم أدركوا أن باستطاعتهم شراء مواقف بعض الدول الغربية بصفقات السلاح والتجارة العملاقة، والتهديد بوقفها أن أقدمت الدول على مقاضاتها قانونا بسبب جرائم الحرب المرتكبة.
الثاني: إن ممارسة التعذيب جريمة ضد الإنسانية، وإن حماية المدافعين عن حقوق الإنسان مهمة يجب أن تضطلع بها الحكومات، وإلا اعتبرت مرتكبة لجريمة ضد الإنسانية، وإن المجتمع الدولي مسؤول عن التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان أينما وقعت، وعدم التوقف عند الحدود الجغرافية لأن تلك الحقوق تتجاوزها. فهل يحدث ذلك؟ تؤكد التقارير الموثقة أن معارضي أنظمة القمع والاستبداد يواجهون أبشع أساليب التعذيب وسوء المعاملة الحاطة بالكرامة الإنسانية خصوصا في مصر وسوريا والسعودية والبحرين. وقد ذكرت صحيفة «ديلي ميل» الأسبوع الماضي في تقرير خاص أن عددا من الأمراء والتجار المعتقلين بسجن «ريتز ـ كارلتون» تعرضوا للتعذيب المبرح ومن بينهم الأمير متعب بن عبد الله والوليد بن طلال. فأين هي المواثيق الدولية التي تجرم التعذيب؟ وكانت لجنة التحقيق المستقلة بزعامة المرحوم شريف بسيوني التي شكلتها الحكومة البحرينية قد أثبتت في تقريرها النهائي في مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام أن هناك «تعذيبا ممنهجا» في السجون البحرينية، وذكرت أسماء المعذبين وطالبت بأحداث تغييرات في أجهزة الأمن ومقاضاة الجلادين، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
الأمر الثالث: أن غياب المساءلة الدولية وتجميد القوانين والمواثيق الدولية شجعت التحالف الرباعي على استهداف دولة قطر بشراسة غير معهودة، وفرضت عليها حصار بريا وجويا وبحريا غير مسبوق. ولم ينطق أحد من هؤلاء الحلفاء الغربيين بكلمة واحدة ضد هذا الوضع، وإن حدث ذلك فبأسلوب خجول. فأين هي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي؟ وإلى أين تتجه أوضاع المنطقة في ضوء انتشار ظاهرة التنكيل والتعذيب والقمع بحق المناوئين الذين يطالبون بإصلاحات سياسية واسعة في المنطقة. وكما يقال: من أمن العقوبة أساء الأدب. والأخطر من ذلك أن يتم تعريض الأمن والسلم والدوليين لخطر التمييع، وذلك بإعادة صياغة مفاهيم الإرهاب لتصبح منسجمة مع ما يطرحه الديكتاتوريون العرب. فكل من عارض أيا من هذه الأنظمة اعتبر إرهابيا. وذكر التحالف الذي تقوده السعودية الأسبوع الماضي أنه أضاف منظمات وأشخاصا إلى قائمة الإرهاب التي أصدرها قبل بضعة شهور لتضم أشخاصا بعيدين عن العنف والإرهاب، ومضطهدين بلا رحمة.
إن أمن العالم وسلمه لا يتحققان إلا بتفعيل القرارات والمواثيق الدولية التي توافقت دول العالم حولها. وهذا يتطلب إرادة حقيقية من الدول الغربية، ما تزال غير متوفرة. فلا قيمة للقوانين إذا بقيت خارج إطار التفعيل والتطبيق. إن عالما بدون قيادة كالسفينة بلا ربان، تتقاذفها الأمواج وتعصف بها الرياح حتى تغرق. من المسؤول عن توجه العالم نحو اللامجهول في ظل تردد هذا العالم في تفعيل قوانينه ومواثيقه واكتفائه بإصدار القوانين التي لا تعني الكثير ما دام تفعيلها مجمدا أو انتقائيا أو خجولا؟
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2017/11/27