هل تَصاعُد الحَديث عن تَوطينِ الفِلسطينيين في سيناء والكَشف عن وثائقٍ بِريطانيّة حول مُوافقة مبارك تَمهيدٌ “لصَفقة ترامب الكُبرى”؟
عبد الباري عطوان
تَعلّمنا، ومن خِلال خِبرةٍ تَمتد لأكثر من أربعين عامًا في عالم الصّحافة المَكتوبةِ والمرئيّةِ والمَسموعة، أن عمليات تسريب الوثائق حولَ قضايا مُعيّنة، في أوقاتٍ مُعيّنة، لا يأتي من قبيل الصّدفة في غالبِ الأحيان، وإنّما من خلالِ خَطواتٍ مَحسوبةٍ للتّمهيد لمُخطّطاتٍ أو تَسوياتٍ سياسيّة أو حَربٍ أهليّة أو غزو عسكري، وما كَشفت عنه شبكة “بي بي سي” البريطانيّة يوم أمس من وثائقٍ تُثبِت أن الرئيس المصري حسني مبارك وافق على توطين الفِلسطينيين في سيناء، لا يُمكن أن يكون استثناء.
صحيح أن الرئيس مبارك أصدرَ بيانًا اليوم الأربعاء أكّد فيه عدم صِحّة هذهِ الوثائق، وقال أنّه لم يُوافق مُطلقًا على طلبٍ تقدّم به الرئيس رونالد ريغان، الذي التقاه في زيارةٍ رسميّةٍ في شباط (فبراير) عام 1983 بتوطينِ فِلسطينيين لاجئين في لبنان في شبه جزيرة سيناء، وأكّد أيضًا أنّه رفض اقتراحًا مُماثلاً عَرضه بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، عام 2010 يتم في إطارِ خُطّةٍ لتَبادل الأراضي، ولكن الوثائق البريطانيّة قالت عَكس ذلك وأكّدت أن الرئيس مبارك وافق على الاقتراح شريطةَ أن يكون في إطارِ تسويةٍ شاملةٍ، مِثلما عارضَ في الوقت نَفسه قيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة في الضِفّة الغربيّة، واقترح رَبطَها في إطارِ كونفدراليّة مع الأردن.
*
كَشفْ النّقاب عن هذهِ المَعلومات الخطيرة جدًّا، وفي تزامنٍ مع قُرب طَرح الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب ممّا يُطلِق عليه بـ”الصّفقة الكُبرى” لحَل القضيّة الفِلسطينيّة أولاً، وتَزايد الحَديث الذي يَربط بين تصاعد الإرهاب في شمال سيناء (مجزرة العريش) ومَشروع تَوطين الفِلسطينيين في سيناء، و”تَسمين قِطاع غزّة”، أو إقامة “غزّة الكُبرى”، هو بمَثابة “بالونات اختبار” لجَس النّبض أولاً، وقِياس ردودِ الفِعل، والتّمهيد لتمرير هذهِ المُخطّطات، ولا دُخان دون نار، مِثلما يقول المَثل.
وما يُرجّح أكثر ما قُلناه آنفًا، أن الوزيرة الإسرائيليّة غيلا غامليئين التي تُعتبر من أشد المُحرّضين على إقامة الدولة الفِلسطينيّة في سيناء، لأنّها المَكان الأكثر مُلائمةً من وِجهة نَظرِها تواجدت في القاهرة قبل بِضعة أيّام تحت سِتار المُشاركة في مُؤتمر، وحَظيت باستقبالٍ لافت.
لا شَكْ أن مُسارعة الرئيس مبارك لنَفي ما ورد في الوثائق البريطانيّة، وما تَضمّنته من مَعلوماتٍ خطيرة تُؤكّد مُوافقته مُهم للغاية، وربّما جاءَ بإيحاءٍ من السّلطات المِصريّة، ولكنّه لا يَكفي في حَد ذاته، ولا بُد من صُدورِ مَوقفٍ واضحٍ وقويٍّ على أعلى مُستوى في القِيادة المِصريّة.
الفِلسطينيون، ونَحن من بينهم، هم أكثر المُعارضين للتّوطين، أو إقامة أيِّ دولةٍ مُستقلّةٍ على غَير الأراضي الفِلسطينيّة، ويتمسّكون بحَق العَودة كاملاً دون أيِّ نُقصان، وإلى كل الأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة من البَحر إلى النهر.
لا أكشف سِرًّا، عندما أقول أن الرئيس الفِلسطيني الراحل الشهيد ياسر عرفات كان من أكثر المُعارضين شراسةً لأيِّ مَشروعٍ يُريد نَقل الفِلسطينيين وتَوطينهم في سيناء لإدراكه مدى حساسيّة مَوضوع الأرض لدى الأشقاء المِصريين، الذين يَرفضون مُطلقًا التّنازل عن مليمتر واحد من أرضهم لأي طرفٍ كان، وفاوضوا عِدّة سنوات لاسترجاع منطقة طابا التي لا تَزيد مساحتها عن كيلومتر متر مربّع واحد، رغم المُغريات الماديّة الإسرائيليّة والأمريكيّة الضّخمة.
سيناء كانت مَفتوحةً دائمًا أمام أبناء قِطاع غزّة، منذ عام 1948 وحتى احتلال عام 1967، وكان القِطاع خاضِعًا لإدارة الحاكم العَسكري المِصري، ويَستطيع ابن القِطاع التجوّل فيها طولاً وعرضًا مُكتفيًا بالهويّة فقط، ومع ذلك لم يَقبل فِلسطيني واحد التوطين في سيناء رغم أنّه كان مُتاحًا، والأكثر من ذلك أن المادّة الأهم في اتفاق أوسلو كانت تَنُص على عَودة بِضعة آلاف من اللاجئين الفِلسطينيين في رَفح المِصريّة إلى داخل قِطاع غزّة بعد أن فَصلَهم الاحتلال عن أشقائهم فيه، وعادوا جميعًا ولم يَتخلّف واحدٌ مِنهم في الجانب الآخر من الحُدود.
*
الرئيس عرفات، وأنا أنقل عنه شخصيًّا، رَفض أن يكون مَدرج الهُبوط لمَطار رفح داخل الأراضي المِصريّة، ومَزّق خرائط جرى تقديمها له في هذا الإطار، مَرفوقةً بمُوافقةٍ مِصريّةٍ، وأصرّ على أن يكون مُدرّج الهُبوط والإقلاع كُلّه داخل أراضي القِطاع الذي لا تَزيد مساحته عن 150 ميلاً مربّعًا فقط، لأنّه لا يُريد خَلق أيَّ حساسيّاتٍ مع الشقيقة مِصر وشَعبها، وهو الذي كان يَتباهى دائمًا بأنّه “مِصريُّ الهَوى”.
نُعارض التّوطين في سيناء أو أيِّ مكانٍ آخر، مِثلما نُعارض وبقوّة، ومَعنا الأغلبيّة السّاحقة من أبناء الشّعب الفِلسطيني في الوَطن والمَهجر، كل مَشاريع الوطن البديل، في الأردن أو سيناء، أو لبنان، أو أيِّ بَلدٍ آخر، لأن فِلسطين، كل فِلسطين، هي الوطن، ولا تَنازل مُطلقًا عنها، وحَق العَودة إليها، مَرفوقًا بالتّعويضات ليس مُقابل التنازل عن أراضٍ، فهذهِ خيانة، وإنّما عن نهبِ الإسرائيليين لهذهِ الأرض، ثَرواتِها، ومائِها وبَحرِها وسَمكِها، وهَوائِها طِوال سَنوات الاحتلال مُنذ عام 1948، وسنُقاوم الصّفقة الكُبرى، مِثلما نُقاوم الاحتلال، بل لأنّها تُكرّس الاحتلال، ولو لشِبرٍ واحدٍ من أرض فِلسطين التاريخيّة، التي هي أرضنا وستَظل.. والأيّام بَيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2017/11/30