سيناريو التسوية بين واشنطن وأنقرة: أميركا في شرق الفرات... وتركيا في غربه
د. عصام نعمان
الصراع السياسي والعسكري ما زال محتدماً في سورية وعليها. واشنطن تؤجّج الصراع العسكري من خلال وكلائها الميدانيين. حلفاؤها الكُرد في شرق الفرات متربّصون بالجيش السوري غرب النهر وبالجيش التركي شمال منطقة عفرين غرب البلاد. موسكو تركّز جهودها على إنجاح مؤتمر سوتشي الذي دعت إليه أكثر من 1600 شخص ينتمون إلى مختلف الفئات والجماعات والطوائف والمذاهب والاثنيات والأحزاب السورية، لكنها تبقى مستنفَرَة لدعم الجيش السوري إذا ما تطلّبت جهوده العسكرية ذلك.
غير أنّ احتدام الصراع السياسي والعسكري لا تُوقف اتصالات ومحادثات تجري بين اللاعبين الكبار والصغار، كما لا تحجب مخططات يجري إعدادها لإيجاد تسوية للصراع تخدم مصالح الكبار قبل الصغار بطبيعة الحال.
في هذا المجال، يتبلور مشروع سيناريو للتسوية بين واشنطن وأنقرة. جوهر المشروع تمكينُ تركيا من إقامة «منطقة آمنة» في شمال سورية بعمق 30 كيلومتراً غرب الفرات على أن تبقى القوات التركية وحلفاؤها بمنأى عن مناطق البلاد شرق النهر. هذا يعني أن تضع أنقرة يدها على كلّ مناطق سورية الشمالية من عفرين في الغرب إلى منبج في الشرق، وأن تبقى لواشنطن وحلفائها الكُرد اليد العليا على مناطق محافظتي الرقة والحسكة شمال شرق البلاد.
حكومة أنقرة كانت حاولت منذ سنتين إقامة هذه «المنطقة الآمنة» المقترحة، لكن تحرير حلب من وكلاء تركيا وأميركا الميدانيين من جهة، ومعارضة الكُرد السوريين، بدعم من أميركا، من جهة أخرى حالا دون تنفيذ هذا المخطط التقسيمي. الآن، بعدما انهار تنظيم «داعش» في معظم أنحاء سورية وتمكّن الكرد، بمساعدة أميركا، من السيطرة على محافظة الحسكة ومعظم محافظة الرقة ومنطقة عفرين، وقيام أنقرة بتجريد حملة عسكرية للاستيلاء على عفرين، وتهديدها بالتقدّم للسيطرة على منبج أيضاً حيث لأميركا قوات برية ومدرّعات ومطارات، عدّلت واشنطن موقفها فأخذت تنادي بإقامة شريط حدودي دفاعي بين شمال سورية وجنوب تركيا يؤمّن مصلحة هذه الأخيرة. لكن أنقرة طالبت واشنطن بسحب قواتها فوراً من منبج.
أنقرة رحّبت ضمناً بهذه المبادرة الأميركية، لكنها لم توافق عليها علناً… بعد. السبب؟ لأنها لا تثق بواشنطن، كما لمّح إلى ذلك وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تعليقه على المبادرة المذكورة. ذلك أنّ أنقرة تعتقد أنّ واشنطن تموّل وتسلّح «قوات حماية الشعب» الكردية وأنها وعدت قادتها بأمرين: عدم السماح للجيش السوري، كما للجيش التركي، بالسيطرة على مناطق شمال سورية بعد طرد التنظيمات الإرهابية منها، كما وعدتهم بالدعم السياسي اللازم لإقامة كيان كردي منفصل عن دمشق في شمال شرق سورية.
إزاء الخطر الماثل بتقدّم الجيش التركي وحلفائه «الجيش الحر» وبعض الفصائل المحلية المسلحة المتحالفة معه داخل منطقة عفرين، قامت إدارة الحكم الذاتي التي يقودها الكُرد في المنطقة بدعوة الحكومة السورية «للقيام بواجباتها السيادية تجاه عفرين وحماية حدودها مع تركيا من هجمات المحتلّ التركي».
دعوةُ الكُرد العفرانيين هذه مضحكة ومرتجلة في آن. مضحكة لكون الكرد هم البادئين في انتهاك سيادة سورية بتعاونهم العسكري مع تركيا وأميركا. مرتجلة لكون استنجادهم بالجيش السوري لحمايتهم لم يتضمّن أيّ التزامات او إجراءات محدّدة لتأمين قيامه بالمهمة المطلوبة. غير أنّ ذلك لا يمنع كلا الطرفين من تدارك الخطر المحدق والقصور الكردي باتخاذ قادة الكرد جميعاً في الحسكة قراراً حاسماً بالانفصال عن أميركا وتركيا معاً.
ماذا عن واشنطن، موسكو ودمشق؟
واشنطن منخرطة، على ما يبدو، في تنفيذ استراتيجيتها الهجومية الجديدة التي أعلنها وزير دفاعها جيمس ماتيس أخيراً وتتلخص بمجابهة الصين وروسيا بوصفهما «قوتين رجعيتين» بدءاً بسورية وصولاً إلى الشرق الأقصى. إلى ذلك، تنهمك إدارة ترامب بمخطط لتصفية قضية فلسطين وذلك بتكريس القدس عاصمة لـِ «إسرائيل» وعدم استئناف دفع المساعدات المالية التي قطعتها عن الفلسطينيين إلاّ بشرط عودتهم إلى المفاوضات مع القبول بإقصاء القدس عن طاولتها. فوق ذلك، تسعى إدارة ترامب إلى إبقاء قواتها في شمال شرق سورية كاحتياط لدعم الكرد السوريين في الاستحصال على كيان سياسي لهم منفصل عن دمشق، وذلك في إطار مخطط متعدّد الجوانب لتفكيك سورية إلى جمهوريات موزٍ تقوم على أسس قَبَلية ومذهبية وإثنية. وقد جرى تعزيز هذا المخطط بوثيقة قدّمتها أميركا وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن إلى مؤتمر فيينا الأخير تدعو إلى إقامة نظام كونفدرالي فيها.
موسكو ما زالت ملتزمة دعم سورية لاستعادة سيطرتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، وقد ندّدت مؤخراً بمساعي أميركا لتقسيم سورية. وهي جادّة في مساعيها لإنجاح مؤتمر سوتشي بغية إنتاج حلّ سياسي مدخله التصويت الشعبي على مستقبل البلاد. هذه السياسة بكلّ جوانبها ترشح موسكو لصراع سياسي طويل الأمد مع واشنطن المعادية لحكم الرئيس بشار الأسد والتي تقود، بمشاركة فرنسا، حملة مسعورة لاتهام سورية بأنها مسؤولة عن استخدام أسلحة كيميائية ضدّ شعبها.
وهي جادّة في مواجهتها سياسياً وعسكرياً بالتعاون مع إيران وبالتحالف الميداني مع قوى المقاومة اللبنانية والعراقية. في هذا الإطار تجاري دمشق موسكو في مساعيها الدبلوماسية الحثيثة سواء في أستانة أو سوتشي لإيجاد تسوية سياسية للصراع المحتدم، لكنها تصرّ على متابعة حربٍ لا هوادة فيها على التنظيمات الإرهابية والقوى المضادة، الدولية الإقليمية، التي تتواطأ على تقسيمها أو على انتزاع مناطق نفوذ لها فيها. لذا لن تهرع دمشق إلى تحريك جيشها في الوقت الحاضر لنجدة كرد عفرين ضدّ الجيش التركي وحلفائه، بل ستقوم بدعوة الكرد المتمرّدين في شرق البلاد وغربها الساعين لإقامة نظام فدرالي في البلاد إلى وقف تعاونهم مع أميركا ودعوتها بالتالي إلى سحب قواتها الموجودة والمتربّصة شرق الفرات، وإلى التفاهم مع دمشق على أسس سياسية ودستورية لحلّ سياسي ديمقراطي يؤمّن مشاركة الكرد في الحياة السياسية وسلطات الدولة المدنية المنشودة بالتساوي التامّ مع سائر المواطنين السوريين.
الصراع محتدم وطويل، وكذلك المساعي الرامية إلى تطويقه.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/01/29