هل تصبح سورية فيتنام العرب...؟
محمد صادق الحسيني
ما أشبه اليوم بالبارحة.
وذلك لأنّ الرئيس الأميركي ترامب لم يأتِ بجديد عندما أعلن عن نيته سحب قوات بلاده المحتلة من شمال شرق سورية، وذلك لأنّ هناك من سبقه من الرؤساء الأميركيين إلى مثل هذه الخطوة قبل حوالي أربعين عاماً آملاً منه في النجاة من الهزيمة. تلك الهزيمة المدوية والهروب المذلّ للقوات الأميركية من فيتنام سنة 1975 كان قد سبقها إعلان رئاسي مشابه لإعلان ترامب.
ففي الخامس والعشرين من شهر تموز سنة 1969 أعلن الرئيس الأميركي آنذاك، ريتشارد نيكسون، في خطاب له في جزيرة غوام في المحيط الهادئ، ما أطلق عليه في حينه: عقيدة نيكسون Nixon Doktrin.
وقد كان جوهر تلك العقيدة يقول بضرورة أن يتولى حلفاء الولايات المتحدة في فيتنام، أي حكومة فيتنام العميلة، أمور الدفاع عن أنفسهم بأيديهم، خاصة من الناحية المادية أو المالية.
وكان الهدف من نشر هذه العقيدة، التي صاغها مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي هنري كيسينغر، يشمل العديد من الأهداف أهمها التالية:
أولاً: نقل مسؤوليات العمليات القتالية شيئاً فشيئاً إلى جيش حكومة فيتنام الجنوبية العميلة والذي كان يبلغ تعداده مليون جندي.
ثانياً: تهيئة الظروف لانسحاب تدريجي للقوات الأميركية، والتي بلغ تعدادها آنذاك أربعمئة وستة وستين ألفاً ومئتي جندي، من فيتنام.
ثالثاً: تفادي هزيمة مذلة للجيش الأميركي في تلك الحرب والتي كانت قد كلفت الولايات المتحدة ما يزيد على مئة مليار دولار.
ولكن مستشاري نيكسون وبدلاً من التوجه إلى المفاوضات المباشرة والعمل على إنهاء الحرب بأقصى سرعة كانوا يقدمون له الاستشارات بضرورة زيادة الضغط العسكري على فيتنام الشمالية من أجل تحسين شروط المفاوضات المستقبلية.
ذلك الضغط العسكري الذي تمثل في إلقاء ما يزيد على خمسة عشر مليون طن من المواد المتفجرة على فيتنام وإبادة ما يزيد على ثلاثة ملايين مواطن مدني فيتنامي.
أي أن الإدارة الأميركية وجنودها وجنرالاتها قد ارتكبوا سلسلة من جرائم الحرب المروّعة بحق الشعب الفيتنامي ولكنها لم تنقذ الولايات المتحدة من تجرّع كأس الهزيمة حتى النهاية.
علماً أن إدارة الرئيس نيكسون قد بدأت بفتنمة الحرب هناك وذلك من خلال زيادة تسليح جيش الحكومة الفيتنامية العميلة في جنوب فيتنام وتحويل الحرب شيئاً فشيئاً إلى شكل من أشكال الحرب الأهلية أو الفوضى الشاملة التي تضمن استمرار عدم الاستقرار في جنوب شرق آسيا بشكل عام وليس فقط في فيتنام وذلك في إطار استراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة كلٍّ من روسيا والصين حليفتي فيتنام الشمالية.
وهذه بالضبط هي العقيدة التي حاولت الإدارات الأميركية، منذ عهد جورج بوش الأب وحتى الآن، تطبيقها في العالم العربي، منذ حرب الخليج الأولى سنة 1991، مروراً باحتلال العراق سنة 2003، وصولاً إلى حرب تموز ضد المقاومة الإسلامية في لبنان وسلسلة الحروب الإسرائيلية ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وانتهاءً بمسلسل التدمير الذي أطلق عليه الربيع العربي في العديد من البلدان العربية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما يطبق حالياً من السياسات الأميركية المدمّرة في العالم العربي، وما تشهده المرحلة الحاليّة من تحالف معلن، بين الرجعية العربية وقوى الاستعمار والصهيونية، لهو امتداد لما كان يُسمّى بعقيدة نيكسون في أوائل ستينيات القرن الماضي وأواخر سبعينياته، حيث قرّرت إدارة نيكسون آنذاك توسيع النطاق الجغرافي لتطبيق تلك العقيدة بحيث يشمل منطقة الخليج بأكملها، عرباً وفرساً، حيث قررت تلك الإدارة البدء بتسليح حلفائها آل سعود وشاه إيران، إلى جانب «إسرائيل» طبعاً، على نطاق واسع بحجة حماية الأمن والاستقرار في المنطقة.
الأمر الذي فتح الأبواب على مصاريعها لمرحلة بدء التدخل العسكري الأميركي المباشر في المنطقة بهدف ضرب التيار الوطني المقاوم آنذاك، والذي كان يتمثل في محور جمال عبد الناصر والثورة الفلسطينية وسورية في المشرق والجزائر في المغرب العربي.
وقد ازدادت أهمية هذه الاستراتيجية الأميركية بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث تمّ التأكيد عليها من خلال إعلان ما أطلق عليه آنذاك عقيدة كارتر Carter Doctrine والتي أعلنها في خطابه للأمة بتاريخ 23/1/1980 والتي أُعلن فيها صراحة أن الولايات المتحدة الأميركية سوف تستخدم القوة العسكرية «لحماية» مصالحها في الخليج، إذا دعت الضرورة إلى ذلك.
ولَم يطُل انتظار التدخّل العسكري الأميركي في منطقة الخليج، وذلك من خلال إشعال الحرب بين العراق وإيران عام 1980 مما أتاح المجال للولايات المتحدة بتوسيع تدخّلها العسكري في شؤون المنطقة العربية بشكل عام ومنطقة الخليج، نظراً لأهميتها الاقتصادية والجيوسياسية، بشكل خاص، مما دفع المنطقة إلى الدخول في سلسلة من الحروب والنزاعات العسكرية المدمرة، والتي تواصلت عبر إشعال حرب الخليج الثانية سنة 1991 ثم حرب احتلال العراق سنة 2003، وحتى مرحلة إنشاء التنظيمات التكفيرية بمختلف مسمّياتها.
وبالنظر إلى كل ما تقدّم فإن السياسات الأميركية المطبّقة حالياً في المنطقة العربية ليست سوى امتداد أو استنساخ لسياسات العدوان الأميركية المشار إليها أعلاه. كما أن خطط ترامب للانسحاب من سورية وتسليم مسؤوليات «الدفاع» عن المنطقة، أي عن سورية في هذه الحالة، إلى قوى محلية واقتراحه الجديد، الذي أعلن عنه قبل أيّام، بتشكيل قوة «عربية»، بقيادة السعودية للتدخل في سورية والسيطرة على شمالها الشرقي، بحجة منع إيران من السيطرة عليها وتعزيز نفوذها القوي في سورية.
كما أن هذه الخطوة، إلى جانب طلب البنتاغون رصد مبلغ خمسمئة وخمسين مليون دولار لتجنيد وتسليح ما مجموعه خمسة وستون ألف مقاتل لنشرهم في شمال شرق سورية، لهي خطوة أساسية على طريق تحويل الحرب على أداتهم داعش إلى حرب عربية عربية تمتد إلى سنوات طويلة خدمة لمشاريع تفتيت الدول العربية وتدمير قدراتها وخاصة الدولة السورية، التي تمثل مع حليفها الإيراني والمقاومة اللبنانية عنوان مشروع التحرّر من الاحتلال الأجنبي، بما في ذلك الصهيوني، والخطر الأوحد على وجود الكيان الصهيوني الذي أنشئ أصلاً لإدارة الهيمنة الاستعمارية على المنطقة العربية.
ولكن هذا المخطط الأميركي يعاني من مشكلة أساسية، ألا وهي عدم توفر القوى العسكرية لديه القادرة على تنفيذ مخططه في الميدان والسيطرة على الأرض. فلا غلام آل سعود، عادل الجبير، ولا محمد بن سلمان ومحمد بن زايد قادرون على حشد مليون جندي، كما كان الحال في جنوب فيتنام، ولا الولايات المتحدة قادرة على زجّ نصف مليون جندي في الميدان السوري كي تتمكن من تغيير موازين القوى الميدانية وحسم الوضع لصالح مشروعها، بينما قوات حلف المقاومة تتمتع بكافة المزايا الضرورية للاستمرار في هجومها الاستراتيجي الذي لن يتوقف إلا بتحرير القدس.
وعليه فلا سبيل إلا الانسحاب السريع والهادئ للقوات الأميركية، ليس فقط من سورية بل ومن العراق ومن قواعدها في الخليج، لأن أسلوب التصعيد وإشعال الحروب، الذي تتبعه حالياً في الشرق الأوسط تماماً كما فعلت في جنوب شرق آسيا في سبعينيات القرن الماضي عندما احتلت لاوس وكمبوديا بهدف قطع خطوط إمداد الثوار الفيتناميين، لن يؤدي إلا إلى رفع قيمة فاتورة الهزيمة التي ستلحق بالولايات المتحدة كنتيجة لحرب شعبية واسعة النطاق سينخرط فيها مئات آلاف المتطوّعين العرب والمسلمين، والذين لن تنقصهم لا الإمدادات ولا طرق إيصالها إلى ميادين القتال.
بعدنا طيّبين، قولوا الله…
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/04/20