غياب الأمن يؤكد هشاشة القانون الوضعي
د. سعيد الشهابي
من شعارات الدولة الحديثة التي تعتبر نفسها قد تطورت عبر العقود إقامة «حكم القانون»، أي إخضاع الدولة والشعب لمرجعية توافقية يلجأ اليها في حالات الاختلاف. ويفترض أن يكون التعامل الإنساني اليومي على الصعدان الفردية والمجتمعية والأممية ملتزمة بهذا «القانون». فكلما خضعت كل جهة بما هو متفق عليه تقلصت الحاجة للرجوع إلى القانون. أنه شعار براق يستهوي الغالبية من البشرالذين يختلفون بطبيعتهم ويرغبون في فض الخلاف والاختلاف بما يضمن حقوق الأفراد ويحفظ السلم الاجتماعي والأممي. وكثيرا ما تحدث المفكرون والعلماء عن نوعين من القانون: إلهي ووضعي (من صنع البشر). والاختلاف حول المرجعية القانونية يمثل جانبا من الصراع بين «الدينيين» و «العلمانيين». وهذا الصراع لم يتوقف يوما، وكثيرا ما كان الرجحان فيه لدعاة القانون الوضعي، نظرا للدعاية المتواصلة ضد الحكم الذي يتبناه دعاة المشروع الديني. مع ذلك فسيظل هذا الصراع محتدما، خصوصا مع تراجع فاعلية المفهوم نفسه نظرا لإخضاعه للعنصر البشري الذي يفتقد النزاهة والتجرد والقبول بما هو حق وفق الاطروحات الدينية. وبرغم إخفاقات التجارب الإسلامية العديدة التي وصلت إلى الحكم، فمن السابق لأوانه الاعتقاد بإمكان إقامة نظام سياسي عادل بشكل مطلق باعتماده على القانون الوضعي، واعتبار الإنسان دائما هو مصدر التشريع. كما أن من الاجحاف الترويج لمقولة أن القانون الإلهي (أي الذي روجه الأنبياء والكتب السماوية) لا يناسب الدولة الحديثة أو أنه قد يصلح للزمن الغابر فحسب.
ومن يتابع مدى فاعلية شعار «حكم القانون» في المجتمعات الحديثة (بما فيها الديمقراطيات الغربية) يكتشف بوضوح اخفاقات كبيرة تساهم بشكل مستمر في تعاسة الكثيرين، وغياب العدالة المطلقة، وتهميش الغالبية الساحقة من البشر، وتصاعد ظواهر الفقر والظلم والاضطهاد وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتراجع المجتمعات التي يفترض أنها قطعت اشواطا كبيرة في الرقي والتطور وأنماط الحكم. بل أن اضفاء القداسة على ما هو إنتاج بشري من قوانين ومبادئ وقيم تتغير باضطراد من بين أسباب التداعي البيئي واختلال التوازن المناخي، وانتشار الأمراض الناجمة عن التدخل البشري في ما هو اختصاص إلهي. ولتوضيح هذه المقولات يمكن إيراد بعض الأمثلة:
أولا: عندما ترتفع الضجة حول ظواهر «معاداة السامية» أو «الاسلاموفوبيا» أو «العنصرية» وهي قضايا لا يمكن إنكار وجودها في العديد من المجتمعات «الديمقراطية» فان ذلك مؤشر على وجود هفوات في إقامة «حكم القانون» أو في القانون نفسه. وعندما تصادر الحريات الشخصية وتتقلص هوامشها خصوصا حرية التعبير بدعاوى «المصلحة العامة» أو «الحفاظ على السلم الاجتماعي»، فأن ذلك تأكيد لغياب القانون الذي يحمي تلك الحقوق. وحين تتصاعد في العواصم الغربية ظاهرة المتسكعين الذين لا يجدون سكنا أو طعاما، فأن من المؤكد أنه ناجم عن غياب القانون العادل الذي يحقق العدالة بين البشر ويمنع الاستغلال أو النهب باسم القانون أو استغلال المناصب للإثراء من المال العام الذي هو ملك للجميع. وقديما قال الإمام علي بن أبي طالب: «ما متع غني إلا بما حرم منه فقير». وقال: «ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع».
ثانيا: عندما يتغاضى المجتمع الدولي عن مآسي الشعوب فتنشب الحروب التي تحصد أرواح البشر بدون حساب، وعندما يصبح «التوازن الدولي» مؤسسا على «توازن الرعب» بتكديس أسلحة الدمار الشامل (النووية والبيولوجية والكيماوية) لدى الدول الكبرى التي تستخدمها متى تشاء لتحصد أرواح البشر، أليس ذلك مؤشرا لغياب حكم القانون واستبداله بشريعة الغاب التي تحمي القوي فحسب؟ وعندما يسكت العالم على احتلال فلسطين سبعين عاما ويتجاهل كافة القرارات الدولية التي تلغي الشرعية عن الاحتلال فماذا يعني ذلك؟ وعندما يتجاهل عالم اليوم القتل العمد الذي يحصد ارواح الفلسطينيين وسواهم من المناضلين فأن ذلك دليل آخر على عدم فاعلية «القانون» سواء الدولي أو المحلي. وحين يسمح لـ «إسرائيل» بامتلاك مشروع نووي ويسمح له بإنتاج أسلحة نووية، ويسمح لذلك الكيان باستهداف البلدان العربية والإسلامية التي تسعى لامتلاك التكنولوجيا النووية، فهل هذا من العدل في شيء؟
ثالثا: أن تطبيق القانون الإلهي يتحقق بوجود جهاز إداري قادر على ذلك بالإضافة لتوفر استعداد نفسي وقبول فردي ومجتمعي بذلك القانون بجوهره وشكله. فالإيمان بالله يخلق في نفس المؤمن استعدادا لقبول إرادة الله والاستسلام لأوامره التي يعتبرها «قوانين» مبرمة لا يجوز له تبديلها أو مخالفتها. وقد نص القرآن الكريم على أهمية إنفاذ القانون الإلهي: وإن أحكم بينهم بالحق ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك». ويحذر التشريع الإلهي من التدخل البشري بهدف التأثير على مسار القانون، فيعتبر ذلك التدخل احد مصاديق «الهوى»: «ولو أتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن». فالإنسان توفر على العقل، وهذا العقل له دوره الواسع في تدبير الحياة الإنسانية خصوصا في مناطق الفراغ التشريعي، أي المجالات التي تقع خارج النص، والتي يسمح للإنسان بتفعيل دور العقل فيها.
رابعا: إن القانون ليس مطلوبا بذاته، بل بما هو وسيلة لإقامة العدل بين الناس وتنظيم حياة البشر وضمان سعادته وتجنيبه الحروب والشرور. فما أكثر جنوح الإنسان للحياد عن الطريق وانحيازه إلى هذا الطرف أم ذاك. هذا الإنسان هو المتهم بـ «ازدواجية المعايير» وهو أحد مصاديق إتباع الهوى. وكمثال على ذلك، وجهت حكومة البحرين اتهامات للشيخ علي سلمان، الأمين العام لجمعية الوفاق، أخطرها «التخابر مع دولة اجنبية» الذي قد يؤدي إلى الإعدام. ومبعث هذا الاتهام تعاون الشيخ علي مع مبادرة قطرية في العام 2011 لحل الازمة السياسية في البحرين، تمت بعلم الحكومة. ولكن هذه الحكومة لم توجه للشيخ تهمة مشابهة بالتخابر مع دولة الكويت التي طرحت هي الأخرى مبادرة شبيهة في الحقبة الزمنية نفسها. جاءت المبادرة من أمير الكويت الشيخ صباح، كما فعل أمير قطر، رغبة منهما في تجنيب المنطقة شرور الصراعات المسلحة. ولكن تلك المبادرات صودرت تماما بمبادرة سعودية ـ إماراتية أدت إلى تدخل عسكري مباشر ما يزال مستمرا حتى الآن. هنا يتحول القانون إلى أداة للقمع لأن الحاكم يخضعه لتصفية الحسابات مع الآخرين.
خامسا: إن التجربة البشرية اظهرت هشاشة القوانين التي يضعها الإنسان والتي كثيرا ما تفتقد الموضوعية والتجرد. صحيح أن القانون، في فلسفة أرسطو هو «نتيجة نمو العقل الإنساني» وأنه «محصلة لتجارب الأمم وخبرة المفكرين» وأنه يسعى لـ «تحقيق العدالة للجميع»، إلا أن التجربة البشرية لم تساهم كثيرا في تقنين الحياة بما يحقق سعادة الفرد والعالم، وربما تمت التضحية بالفرد وحقوقه بدعوى تضارب ذلك مع مصلحة المجتمع. أما هيغل فيرى أن القانون يجب أن يخضع الفرد خضوعا كاملا لسلطة الدولة المطلقة. ومن المؤكد أن هذا سيؤدي لقيام الأنظمة الشمولية التي تضحي بالفرد وحقوقه وأمنه بدعوى لزوم ذلك لتحقيق المصلحة العامة للشعب. هذا السجال البشري متواصل بموازاة الطرح الديني الذي يعتبر القانون تعبيرا عن إرادة إلهية لضمان تكامل الإنسان وسعادته وتحقيق العدل. القانون الإلهي مبدأ مطلق يؤدي إنفاذه إلى تحقيق المصلحة بدون شك، حسب التأكيد القرآني: وإن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا».
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/05/07