أردوغان “يُحرِج” خُصومِه من الزُّعَماء العَرب بِعَقد قِمّةٍ إسلاميّةٍ في إسطنبول وطَرد السَّفير الإسرائيليّ احتجاجًا على مَجازِر غزَّة ونَقل السِّفارة الأمريكيّة إلى القُدس
عبد الباري عطوان
نَتَّفِق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ما جاءَ في التًّصريحات التي أدلَى بِها في لندن التي زارَها تَعليقًا على المَجزرةِ التي ارتَكَبَتها القُوّات الإسرائيليّة على حُدودِ قِطاع غزّة، وقال فيها “أنّ التَّاريخ لن يُسامِح إسرائيل والوِلايات المتحدة الأمريكيّة إثر نَقل السَّفارة الأمريكيّة إلى القّدس المُحتلَّة، ونُضيف إليها بأنّ التَّاريخ لن يُسامِح أيضًا الزُّعَماء العَرب، وخاصَّةً الذين يَستضيفون سِفاراتٍ إسرائيليّةٍ على أرضِ بِلادِهم، ويُطَبِّعون سِرًّا أو عَلنًا مع دَولة الاحتلال، وَصمَتوا صَمت القُبور على هَذهِ المَجازِر، وربّما تواطأوا مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في جَريمةِ تَهويد القُدس المُحتلَّة ونَقلِ السِّفارةِ إليها.
كان لافِتًا أنّ الرَّئيس أردوغان، اختلفنا معه أو اتفقنا، كان الوَحيد الذي دَعا إلى عَقد قِمّة عاجِلة لمُنظَّمَة التَّعاون الإسلامي مَرَّتين، الأولى عِندما أعلَن الرئيس ترامب نواياه بنَقل سَفارة بِلاده إلى القُدس المُحتلَّة قبل نِهاية هذا العام، ووقَّع مَرسومًا استفزازيًّا بذلك على المَلأ، والثَّانِية يوم أمس عِندما حدَّد لهَذهِ القِمَّة الثَّانِية مَوعِدًا لانعقادِها يوم الجُمعة المُقبِل، وبادَر بالاتِّصال بزُعَماء عَرب بينهم العاهِلان السُّعوديّ والأُردنيّ وأمير دولة الكويت.
*
كان أمرًا مُؤسِفًا أن يَقتَصِر تَحرُّك الجامِعة العَربيّة على دَعوة لعَقد اجتماع لبَحث هذهِ الجَريمة على مُستَوى المَندوبين في مَقرِّها، ثُمَّ جَرى رفعه إلى مُستَوى وزراء الخارِجيّة، ممّا يُشكِّل إهانَةً لمدينة القُدس المُحتلَّة، واستهتارًا بِكُل الشُّعوب العَربيّة التي تُعانِي غَضبًا مِن جَرَّائِها، فإذا كانَ تَهويد القُدس، والاعتراف بِها عاصِمةً أبديّةً لدَولة الاحتلال لا يَستحِق عقد قِمّة عربيّة تتَّخِذ قراراتٍ على قَدرِ هذهِ الإهانة التَّاريخيّة، فمَا الذي يَستحِق هَذهِ القِمَّة؟
قِمَّة إسطنبول التي دَعا إلى عَقدِها الرئيس التُّركيّ سَتَكون اختبارًا لوَطنيّة وإسلاميّة وعُروبَة مُعظَم الزُّعمَاء العَرب، إن لم يَكُن كلهم، ولا نَعتقِد أنّ هؤلاء، أو مُعظَمّهم، سيَنجَحون في هذا الاختبار، ويُشارِكون في هَذهِ القِمّة، ويتَّخِذون قراراتٍ رادِعة لكُل من إسرائيل والوِلايات المتحدة معًا، لأنّ القُدس، والقَضيّة الفِلسطينيّة أيضًا، لا يَحتلَّان إلا مكانةً مُتدنِّيَةً على سُلَّم اهتماماتِها، في ظِل الصَّداقةِ الحميميّة المُتزايِدة بسُرعَةٍ مع دَولة الاحتلال.
كُنَّا، وما زِلنا، نَتمنَّى ان تكون الدُّوَل العَربيّة التي تستضيف سِفاراتٍ إسرائيليّةٍ في قَلبِ عَواصِمها، أوّل المُبادِرين لطَرد السُّفَراء الإسرائيليين، واستدعاءِ سُفرائِهم من تَل أبيب، أُسوَةً بحُكومات جنوب أفريقيا وإيرلندا وتركيا ونرويج، كبادِرةِ احتجاج على هذه المَجازِر واستنكارًا للاحتفالِ المُهين، مِثلما كُنّا نَتمنَّى أن تَكون هَذهِ الدُّوَل هِي التي تُوجِّه الدَّعوة لعَقد قِمّةً عَربيّةً طارِئة في الرِّياض أو القاهِرة، أو تُوسِّع نِطاق جُهودِها بالدَّعوةِ إلى قِمَّة إسلاميّة، تَضع كل ثِقَلِها خَلفها، والقَضيّة التي تتصدَّر جَدوَل أعمالها، ولكِنَّها لم تَفعَل، والأَسوَأ من ذلك أنّها أعطَت تعليمات خَفيّة لوَسائِل إعلامها للتَّشكيك في نوايا الرَّئيس التُّركي وأهدافِه من وراءِ المُبادَرة بعَقدِها في إسطنبول.
أردوغان يَكسَب جُزءًا كبيرًا من الرَّأي العام العَربيّ بانحيازِه إلى المُقاومةِ الفِلسطينيّة، وإرسالِه الطَّائِرات لنَقل أكثر من 3000 جريح إلى مُستَشفيات بِلادِه لعِلاجِهم وإنقاذ أرواحِهم، بينما يُدير زُعَماء عَرب وُجوهَهم إلى النَّاحِيةِ الأُخرى، ويُحكِمون إغلاق أبواب حُدودِهم مع قِطاع غزَّة، ونحن نَتحدَّث هُنا عن القِيادة المِصريّة دُونَ مُوارَبةٍ.
ربّما يُجادِل البَعض بأنّ الرئيس أردوغان بِطَردِه للسَّفير الإسرائيلي، والدَّعوة لعَقد قِمّة إسلاميّة يُخاطِب الرَّأي العام في بِلاده، ويُريد حَشدِه خلفه في مَعرَكَتِه الانتخابيّةِ الرِّئاسيّةِ والبَرلمانيّةِ الصَّعبةِ المُقبِلة، ولِمَ لا؟ وأينَ الخَطأ في ذلك؟ وإذا كان بَعض الزُّعَماء العرب لا يفعلون مِثله فذلك يَعود، بِكُل بَساطة إلى سَببين: الأوّل أنّهم لا يَحتَرِمون الرَّأي العام في بِلادِهم، ولا يَعتَرِفون بوُجودِ شَيءٍ اسمه الشَّعب أصلاً، والثَّاني أنّه لا تُوجَد دِيمقراطيّة أو انتخابات حُرَّة في بِلادِهم في الأساس.
الآن بَدأ البعض مِنَّا يَفهَم لماذا جَرى اغتيال الرئيس صدام حسين، والعقيد معمر القذافي، وغَزو العِراق وليبيا، وتَدمير سورية، وتَمزيق اليمن، وبِدعمٍ أمريكيٍّ مُوثَّق، وعَبر أدواتٍ عربيّةٍ وإسلاميّة، فخُروج هذهِ الدُّوَل من دائِرة التَّأثير السِّياسي الدَّوليّ والإقليميّ، وجُلوس حُلَفاء أمريكا في مِقعَد القِيادة، هو الذي أوصَلنا إلى الدَّرَك الأسفَل هذا.
*
نعم.. بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بحاجَةٍ إلى دُروسٍ في الأخلاق، ومَعه الكثير من الزُّعَماء العَرب المُتواطِئين معه، والمُطبِّعين مع حُكومَتِه، ليس من قِبَل الرئيس أردوغان، وإنّما مِن كُل الرِّجال الرِّجال الذين يُدافِعون عن كرامة هَذهِ الأُمّة وعِزَّتِها وعَقيدتها على حُدود شَمال قِطاع غزَّة مع الأرض الفِلسطينيّة المُحتلَّة شَمالاً، ويَتصَدُّون لرِصاص الاحتلال الحَيّ نِيابَةً عن الأُمَّتين العَربيّة والإسلاميّة، بصُدورِهم العارِية والعامِرة بالإيمان والثِّقَةِ بالنَّصر.
كُنّا نَتمنَّى لو أنّ الرئيس أردوغان أغلقَ السَّفارَتين الأمريكيّة والإسرائيليّة وطَرَدَ جميع الدِّبلوماسيين فيهِما، ووجَّه دَعوةً إلى الرئيس السُّوري بشار الأسد لِحُضور هذهِ القِمّة الإسلاميّة القادِمة، والإعلان عن سَحبِ قُوَّاتِه من سورية كمُبادَرةِ مُصالَحةٍ، في رَدٍّ قَويٍّ على كُل المُتآمِرين على هذهِ الأُمّة، وتَكوين جَبهَةٍ أو حِلفٍ، يَتصدَّى لهذا التَّغوُّل الأمريكيّ الإسرائيليّ الذي اجتازَ كُل الخُطوط، وبِكُل الألوان.
نُدرِك أنّنا نَطلُب المُستحيل في ظِل ظُروف الانهيار العَربيّ الإسلاميّ الحاليّ، مِثلِما نُدرِك أيضًا أنّ البَعض سيتَّهِمنا بالرُّومانسيّة السِّياسيّة، والتَّحليق بَعيدًا عن الواقِع، وهذا لا يُضيرنا، ويَجعلنا نَفقِد الأمَل، لأنّنا نُؤمِن بأنّ السِّياسات تتغيّر بِتَغيُّر المَصالِح، وكذلك التَّحالُفات أيضًا، مِثلَما نَتَّفِق بأنّ هذهِ الأُمّة ستَخرُج من كَبوَتِها وتَثأَر لكَرامِتها في يَومٍ ما، ولَعلَّهُ قَريبٌ جِدًّا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/05/17