العراق: شيء أسمه القيادة الجماعية
صباح علي الشاهر
” القيادة الجماعية ” مصطلح استعمل كثيراً ، والغريب أن أكثر من دعا إليه وطرحه، هم الذين يعملون على الضد منه تماماً ، وللأحزاب الشمولية باع طويل في استهلاك هذا المصطلح، واستغلاله على غير النحو المراد منه ، لكنها أبداً لم تعتمده قط في مجرى عملها ونشاطها . دائماً استعمل كمصيدة لاصطياد السذج ، وسريعي الاقتناع ، ولتبرير وتمرير أكثر القرارات والإجراءات فردانية ، باسم القيادة الجماعية هيمن خروتشوف، ومن جاء من بعده، وباسمها وباسم المبادرة الكبرى تسلط ماو على رقاب الحزب والدولة، ومن ثم عصابة الأربعة فيما بعد ، وباسمها زاولت الأحزاب الشمولية تغولها على الناس ، وسحق إرادتها ، اللجان المركزية بمقابل القيادات القطرية ، والمكاتب السياسية بمقابل القيادات القومية ، وبدلاً من إرادة الشعب أحلوا مصطلح إرادة القيادة ، وقرار القيادة ، ورأي القيادة . لقد فرّخت الأحزاب الشمولية فراعنه بأحجام مختلفة ، من الفرعون الأكبر ، الذي يمثله الأمين العام ، أو سكرتير اللجنة المركزية ، إلى الفراعنة الأقل حجماً وصولاً إلى الفراعنة الأقزام .
يحتاج مفهوم ” القيادة الجماعية” الذي نعنيه إلى توضيح ضروري، هو لا يعني إغفال دور الفرد، وإنما وضع هذا الدور في إطاره الصحيح، ليس اعترافا بما يقوله بليخانوف عن دور الفرد في التأريخ ، وإنما اعترافاً بما تؤكده وتقوله الوقائع ، فكم أمم إستيقضت من سبات، ونهضت بفعل ظهور شخصية أو شخصيات تمكنت من اقتناص الفرص التاريخية ، ومن ثم الانتقال ببلدانها من حال إلى حال ، ولا حصر ولاعد للأمثلة على هذا ، من دون إغفال أن الفرد الإيجابي يمكن أن يتحول بفعل السلطة وتأثيراتها إلى فرد سلبي ، مُستبد ، مُعيق للتطور ، بفعل تفرده ، وعدم وجود القيادة الجماعية ، أو وجودها على نحو شكلي ومظهري ، وتحولها إلى مجرد صدى لما يقوله القائد ، والأمثلة على هذا لا حصر لها أيضاً.
مهما عظمت قدرات الفرد، فإنها لا تصل لدرجة الاتكال الكامل عليه ولا الارتهان لما يقره ويريده، فهو كبشر لا يمكن أن يتخلص تماماً من عواطفه ورغباته وقناعاته الذاتية ، ولعل دعاء النبي محمد ” ربي هذا قسمي فيما أملك فلا تحاسبني عما لا أملك ” وهو هنا يعني قلبه وعواطفه ونوازع هذا القلب يصلح خير مثال لتوضيح ما نقصد.
القيادة الإيجابية المستندة إلى قيادة جماعية حقيقية ، لا تكون طائفية ، ولا عائلية ، ولا مناطقية ، ولا عرقية ، ، ولا تكون مرجعيتها شخصاً أو عائلة ، أو عشيرة ، وهي على مستوى قيادة وطن ، لا تكون صرف حزبية ، ولا تكون مرجعيتها أيدلوجية معينة ، بل مرجعيتها مصالح الشعب بأطيافه ، وقراراتها تضمن تثبيت وتوطيد هذه المصالح، وخلق فرص التطور والنمو في إطار السلم الأهلي والأمن والاستقرار الذي هو أهم واجباتها .
القيادة الجماعية فلتر يقف أمام تسرب القرارات الذاتية ، ليست الآنية والانفعالية غير المدروسة فقط ، بل القرارات التي تنطلق من منطلقات عائلية أو مناطقية أو شللية أو ذاتية ، لكن القيادة الجماعية مهما كان تنوعها فإنها لن تمنع كلياً القرارات الخطأ ، لذا صير إلى جهاز الرقابة، أو اللجان الرقابية ، التي تتكفل بمراجعة ومراقبة قرارات القيادة الجماعية، والتي تملك حق ردها ونقضها، تماماً مثل تسلسل المؤسسات القضائية المكلفة بحماية ومراقبة حسن تطبيق القوانين ..
العالم المتطور يبتدع طرائق للإدارة ، تتبدل بين حين وآخر ، وتتطور مع تطور الزمن، وهي تقترب من إزالة الهالة المعروفة عن القادة والمسؤولين ، وتحولهم إلى ماهم عليه فعلاً ، مجرد موظفين يكلفون من قبل الشعب بتحمل المسؤولية ، وقيادة البلد في فترة محددة، بمنافع تقترب كثيراً من منافع الموظفين الكبار، لا بل قد تقل عن منافع بعض الوظائف ذات المردود النافع أو الضروري جداً للناس ، لذا لا مجال لحكم العائلات ، والسلالات إلا على نحو فلكلوري، ولا يقتصر هذا الأمر على الغرب ، بل إمتد إلى بلدان شرقية عديدة ، وبالأخص في شرق آسيا .
كلما زادت المنافع والامتيازات التي يمنحها القانون للقادة ، ابتعد القادة عن بقية الناس ، وخلقوا عالمهم الخاص ، الذي سيكون بؤرة الفساد والإفساد ، وكلما رفع الناس قامة القادة ، وعاملوهم كما يعاملون المقدس ، كلما زاد تفردهم وغرورهم ، وتصورهم بأنهم أصبحوا أنصاف آله ، وأنهم شيء والرعاع شيء آخر .
القانون وكذا الناس ، يتحملون المسؤولية الأولى في وجود الظالم ، المتجبر ، المستبد ، وبالنتيجة الفاسد المفسد ، غير الصالح .
عندما يسن القانون الذي يقلم أظافر القائد والمسؤول ، ولا يبالغ بمنحه المنافع والامتيازات، ويحد من صلاحياته، وعندما يترك الناس عادة تأليه القائد ، ويمتنعوا عن مظاهر هذا التأليه، وعندما لا يصبح المستشار سكرتيرا شخصياً ، وعندما تكون القيادة قيادة جماعية ، والقائد أبرز من فيها ، عندها سنضع أقدامنا على طريق التطور والنمو ، وسنمضي بخطوات فلكية نحو المستقبل .
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/05/19