التحرير السريع للجنوب السوري: الخلفيّة والتداعيات
العميد د. أمين محمد حطيط
ما أن فرغ الجيش العربي السوري وحلفاؤه من إنجاز التطهير الكامل لريف دمشق وكامل النطاق الأمني اللصيق بها، وأتبعه بتطهير النطاق الأمني السوري الأوسط خاصة في ريفَيْ حماة وحمص حتى طرح السؤال يومها حول وجهة قطار التحرير، خاصة أن المشهد السوري بعد الإنجازات تلك كان قد ارتسم على وجود القطاعات الحدودية الأربعة شمالاً وجنوباً والتي يميّزها بشكل واضح العامل الأجنبي المباشر الذي يشكل حضوره احتلالاً مباشراً للأرض السورية تمارسه بشكل مؤكد كلّ من «إسرائيل» وأميركا وتركيا.
في ظل هذا المشهد طُرحت فرضيات منها أن سورية «المتعبة» بعد 7 سنوات من القتال الدفاعي ستؤثر العمل السياسي في تحرير ما تبقى وإخراج المحتل من أراضيها، ويعطى العمل السياسي وقته وفرصه حتى ولو كان طويلاً بعض الشيء من أجل توفير الجهد والخسائر. وفي المقابل طُرحت نظرية استكمال التحرير بالوسائل العسكرية، مهما كانت الكلفة والتضحية، لكن القيادة السورية الواعية والحكيمة اتخذت قراراً آخر واعتمدت استراتيجية مركّبة فيها من الفرضتين مع تعديل وجهة العمل السياسي، بحيث تكون وجهته الشعب السوري الذي أكرهه المسلحون ليشكل بيئة حاضنة يحتمون بها، وحتى يكون للقرار وقعه الصادم خرج الرئيس الأسد شخصياً وبشكل متكرّر لثلاث مرات وعبر وسائل إعلام أجنبي يعلن قرار سورية: «كل التراب السوري من الشمال الى الجنوب سيحرّر بالمصالحة أو بالعمل العسكري».
لقد شكّل هذا القرار الذي اتخذه وأعلنه شخصياً الرئيس الأسد صدمة لأعداء سورية الذين، كما أسلفنا، كانوا يراهنون على تعقيدات محدّدة خاصة في جبهة الجنوب حيث الوجود الإسرائيلي والأميركي وغرفة عمليات العدوان المسمّاة «موك» التي تعمل في الأردن، وفيها مجموعة ضباط من دول عربية وأطلسية. أما وقع القرار لدى أصدقاء سورية وحلفائها، فقد كان رائعاً في إيجابيته وشكل نافذة نور على مستقبل مضيء بالحرية والتحرير المقبل لا محالة.
بعد هذا، اتبع القرار السوري مباشرة بتحضير وتهيئة ميدانية في الجنوب سارت على خطين، الخط العسكري الذي شهد نقل القوى التي تفرّغت بعد تحرير ريف دمشق والوسط السوري والخط التصالحي، حيث تحركت الأجهزة المدنية والأمنية والاستخبارية واتصلت بالسكان في المناطق المسيطر عليها من قبل الإرهابيين والمسلحين المحليين. وما إن اكتمل التحضير والتهيئة حتى رسمت خريطة التحرير وفقاً لكل قرية وهدف ومنطقة، وتوزّعت هذه على فئات ثلاث: فئة المناطق والبلدات التي تحرّر بالمصالحة، وفئة ترفض المصالحة ويقتضي تحريرها بالعمل العسكري، وفئة وسط تحرّر بالعمل المركب الذي يبدأ بالعمل العسكري الصادم بشدّته والمحدود بنطاقه والذي يهيّئ الأرضية للمصالحة فيؤخذ بها.
وفي التطبيق، نجحت استراتيجية العمل السوري من أجل تحرير الجنوب وتسارعت وتيرة التحرير بسرعة تفوق المتوقع بشكل كبير. فأضاف الى صدمة قوى العدوان صدمة جديدة تجلّت في الموقف الأميركي علانية، اذ إن أميركا بعد أن كانت حذرت من أي عمل عسكري سوري يؤدي إلى تحرير الجنوب وتبدي قلقها ورفضها له بحجة أن المنطقة خاضعة لمنظومة خفض التصعيد، عادت وتراجعت عن هذا الموقف وأبلغت الجماعات المسلحة بأن «عليهم ان لا يعولوا على دعمها» لأكثر من اعتبار لم تحدّد شيئاً منها، لكننا ندرك هذه الاعتبارات التي حملت أميركا على هذا الموقف وتتمحور في جوهرها حول القوة الفاعلة التي أحضرتها سورية الى الميدان، ربطاً بقرار التحرير الحاسم الذي لا رجعة عنه. وقد أضيف هذا أيضاً الى الخطأ في التقدير الذي وقعت فيه الجماعات الإرهابية التي انتهكت قواعد خفض التصعيد واعتدت على القوات السورية في الجنوب وأهدت لسورية هدية ثمينة تتمثل بالتملص كلياً من موجبات العمل بهذه المنظومة.
لقد نجحت سورية في قرارها وعملياتها التحريرية في وجهيها التصالحي والعسكري، ورسمت في ذلك مشهداً فرض نفسه كأمر واقع على الجميع، مشهد لم يعُد ممكناً تجاوزه. وبات النظر الى مستقبل الجنوب نظرة المتفائل بقرب التحرير الشامل وبشكل أكيد. فكان لهذا من التداعيات ما يمكن ذكر بعضه كالتالي:
1 ـ انهيار معنوي لدى المسلحين والإرهابيين، تسبب بانشقاقات بين جماعاتهم واتجاه الأغلبية منهم للقبول بالمصالحات، وجعل الباقين في وضع قتالي صعب يسهل الحرب عليهم لاجتثاثهم.
2 ـ سقوط ما كان يُروّج له من حديث عن صفقات واتفاقات حول الجنوب من شأنها لو نجحت أو كانت صحيحة أن تخلق في الجنوب وضعية خاصة تناسب قوى العدوان وبصورة خاصة أميركا و»إسرائيل» وتعوّض لـ«إسرائيل» فشلها في إقامة المنطقة الأمنية أو الحزام الأمني اللصيق بالجولان المحتلّ.
3 ـ تحوّل في طبيعة وضعية الحدود الأردنية السورية وتوقع انقلابها من معابر للإرهابيّين والسلاح من الأردن نحو سورية الى معابر اقتصادية وتجارية لمصلحة البلدين في القريب العاجل بعد أن تكون باكورتها فتح معبر نصيب الذي شارفت القوات السورية على مسكه انطلاقاً من تحرير بصرى الشام.
4 ـ تراجع «إسرائيل» الى التمسك والمطالبة بتطبيق اتفاقية فضّ الاشتباك الموقعة في العام 1974. وهو طلب يعني تسليم «إسرائيل» بسقوط مشروعها العدواني في سورية كلياً أيّ السيطرة على كامل سورية وجزئياً أيّ إقامة حزام أمني في الجنوب وعسكرياً ميدانياً أيّ تحديد القوى العسكرية التي تنتشر وتعمل قرب خط فضّ الاشتباك .
5 ـ خروج الجنوب السوري من دائرة التفاوض بين القوى الدولية، وإسقاط فرضية أو محاولة اعتباره ملفاً أو ورقة للمقايضة، وذلك بعد أن أكدت سورية بشكل قاطع أنّ القرار قرارها ولا أحد يمكن أن ينوب عنها في اتخاذ القرار هذا.
إنّ تحرير الجنوب القطاع الحدودي السوري الهامّ والمعقد، بالشكل والطريقة وفي المدة الزمنية تلك، سيشكل علامة فارقة في تاريخ الحرب الدفاعية التي تخوضها سورية مع حلفائها في مواجهة العدوان عليها. علامة فارقة تُضاف إلى ما سبقها من علامات فارقة في حلب ودير الزور وتدمر والفوطة والقلمون وسواها ويختلف عنها ببعض الخصوصيات وسيؤسّس لنموذج مهمّ يُبنى عليه في تحرير القطاعات الحدودية الثلاثة شرقاً وشمالاً، وسيكون لأهمية القرار وحسن التخطيط والتنفيذ موقعه العام في هذا الملف.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2018/07/03