محاور حروب ترامب ضد العالم: قطبية أمريكا وتقويض إيران وتمكين «إسرائيل»
د. عصام نعمان
لا غلوّ في القول إن دونالد ترامب يخوض، بموجب سياسة «أمريكا أولاً» حروباً عالمية تجارية ناعمة، وعدوانية ساخنة بالوكالة، ضد العالم كله بدوله وشعوبه. الرئيس الأمريكي يتوخّى من حروبه تلك تحقيق جملة أهداف أبرزها ثلاثة: تأكيد قطبية الولايات المتحدة وأولويتها في علاقات القوى الدولية، وتقويض نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وتمكين الكيان الصهيوني من البقاء الدولة الأقوى في غرب آسيا، والأقدر على مواجهة حركات التحرير والمقاومة في هذه المنطقة الغنية بالنفط والغاز وذات الموقع الإستراتيجي البالغ الأهمية.
لاستعادة قطبية أمريكا وتأكيدها، اعتمدت إدارة ترامب سلسلةً من السياسات والمواقف العدوانية:
الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بدعوى تعارضها مع مصالح أمريكا الاقتصادية.
الانسحاب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) بدعوى «تركيزها غير التناسبي والعدائي المتواصل ضد إسرائيل».
الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بدعوى نقده سياسة إدارة ترامب في قضايا الهجرة، ونقده المتواصل لممارسات «إسرائيل» المنافية لحقوق الإنسان.
الانسحاب من الاتفاق النووي، بدعوى أنه لا يحدّ من قدرات إيران على صنع أسلحة نووية، كما يتيح لها استخدام مواردها في دعم حركات المقاومة المعادية لأمريكا و»إسرائيل».
شن حرب تجارية ومضاعفة العقوبات الاقتصادية ضد إيران وروسيا والصين، وضد الحكومات والشركات التي تمتنع عن التزام العقوبات المعلنة ضد تلك الدول.
لتقويض نظام الجمهورية الإسلامية في إيران وصولاً إلى إسقاطه، إذا أمكنها ذلك، طوّرت إدارة ترامب الحرب الأمريكية المتواصلة ضدها منذ سنة 1979 بإعلان انسحابها من الاتفاق النووي منتصفَ مايو/أيار الماضي، ثم بإعادة فرض سلّة من العقوبات الاقتصادية كانت عُلقت بعد توقيع الاتفاق النووي سنة 2015، تقضي بمنعها من شراء العملة الأمريكية والمعادن الثمينة ومكوّنات السيارات والطائرات، وبفرض العقوبات على الشركات العالمية التي تتعامل معها تجارياً في مختلف القطاعات الصناعية والتقنية والزراعية. كل ذلك تمهيداً لفرض رزمة إضافية جائرة من العقوبات مطلعَ نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، تستهدف قطاع الطاقة الإيراني ومنع تصدير النفط أو استيراد أي مشتقات نفطية، وحرمان إيران من التعامل بالدولار واليورو. ويدّعي أركان إدارة ترامب أن غاية هذه العقوبات ليس تغيير نظامها، بل تغيير سلوكها للقبول بمفاوضة واشنطن وتعديل الاتفاق النووي، ووقف صناعة الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
لتمكين الكيان الصهيوني من أن يكون الأقوى في غرب آسيا، والأقدر على مواجهة حركات التحرير والمقاومة، لجأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ولاسيما إدارة ترامب، إلى جملة تدابير ومواقف أبرزها:
تزويده مساعدات مالية سخيّة لا تقل سنوياً عن أربعة مليارات دولار.
تسليحه بأحدث الأسلحة الأمريكية وأكثرها تطوراً في البر والبحر والجو.
تنظيم وتسليح وتدريب مقاتلي تنظيمات إرهابية في شتى إنحاء العالم ونقلهم إلى سوريا والعراق وليبيا واليمن، لمقاتلة حكوماتها المعادية لأمريكا أو لـِ»إسرائيل» أو لكليهما.
تنشيط وتمويل التيارات الإسلاموية السلفية المتطرفة، والتعاون مع الحكومات المحافظة بغية تسليطها على المجتمعات العربية، والعمل على استغلال تعدديتها المذهبية والإثنية لتقسيم الدول التي تحتضنها، ولاسيما سوريا والعراق واليمن.
الضغط على الدول العربية المحافظة المعادية لإيران من أجل حملها على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإقامة محور سياسي وعسكري معادٍ لإيران بدعوى أنها أصبحت العدو الأول للعرب.
ما حظوظ سياسة أمريكا الترامبية في بلوغ أغراضها سالفة الذكر؟
صحيح أن العقوبات الاقتصادية وآثارها سيئة ومضرة، إلاّ أن ثمة أسباباً وعوامل تحدّ من فعاليتها وقد تؤدي إلى فشلها، أولها، أن مجموعة كبيرة من الدول باتت متضررة من سياسة إدارة ترامب وعقوباتها الاقتصادية. في مقدّم هذه الدول: الصين وروسيا والهند ودول الاتحاد الأوروبي، ودول أخرى في أمريكا وآسيا حليفة للولايات المتحدة. ومن المنطقي أن تتعاون هذه الدول، بأشكال متعددة، لمجابهة سياسة واشنطن والحدّ من فعاليتها. والواقع أن بعضها باشر فعلاً هجوماً معاكساً على أمريكا في هذا السبيل.
ثانيها، أن الولايات المتحدة أطلقت منذ سنة 1979 عقوبات اقتصادية قاسية ضد إيران بلغت ذروتها في سنة 2015، لكنها لم تُفلح في حملها على التراجع والرضوخ، ما أدى إلى قيام الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما إلى التخلي عن سياسة العقوبات الفاشلة والتركيز على خيار المفاوضات مع إيران، وتوقيع الاتفاق النووي في السنة ذاتها. الملاحظ اليوم أن كل الدول الكبرى الموقعة على الاتفاق النووي تعارض إقدام ترامب على الانسحاب منه، وتعلن تمسكها به وتؤكد معارضتها للعقوبات الأمريكية، وعدم التزام إجراءاتها، كما تؤكد استعدادها للتعاون مع إيران بغية تفادي مفاعيلها.
ثالثها، إن إيران أصبحت الآن أكثر اقتداراً عمّا كانت عليه أيام كانت الولايات المتحدة تمارس عليها عقوباتها الجائرة قبل توقيع الاتفاق النووي سنة 2015. ومن المنتظر أن تتمكن الآن رغم الصعوبات التي يعانيها اقتصادها من التغلّب على هجمة ترامب وعقوباته الجائرة.
رابعها، إن أمريكا تتهيأ لخوض انتخاباتها النصفية مطلع نوفمبر المقبل، وهي تتناول مجلسيّ الكونغرس (الشيوخ والنواب) اللذين يسيطر عليهما الحزب الجمهوري الموالي لترامب. وإذا ما تمكّن الحزب الديمقراطي المعارض من السيطرة على كِلا المجلسين، أو على أحدهما في الأقل، فإن إدارة ترامب قد تجد نفسها عاجزة عن فرض الرزمة الثانية من العقوبات ضد إيران.
خامسها، إن محور المقاومة المناهض لسياسات ترامب لن يكون مكتوفَ اليدين في هذه الآونة. فقوى المقاومة في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط غربا إلى الحدود الإيرانية – الأفغانية شرقا، سيكون حاضراً وفاعلاً في مواجهته القتالية لأمريكا وحلفائها، ولاسيما الكيان الصهيوني. ولا شك في أن عمليات المقاومة في هذه الساحات سيكون من شأنها إنهاك أمريكا وحلفائها وحملها، عاجلاً أو آجلاً، على إعادة النظر في سياساتها الرعناء.
باختصار، الولايات المتحدة ستنزلق مجدداً إلى صراعات مستعرة ومتعددة، وليس أكيداً أن ما عجزت عنه في الماضي ستكون قادرة على الفوز به في الحاضر الأكثر تعقيداً وخطورة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/08/13