سورية هِيَ الرَّابِح الأكبَر مِن أزَمَة إسقاط الطَّائِرة الروسيّة..
عبد الباري عطوان
ربّما يتفاجَأ الكَثيرون بخُروجِنا بقناعةٍ راسِخَةٍ مَفادُها أنّ السُّلطات السوريّة ستَخرُج الرَّابِح الأكبَر من أزَمَة سُقوط طائِرَة الاستطلاع الروسيّة فَوقَ أجواء مدينة اللاذقيّة، ومَقتَل جميع من كانوا على مَتنِها من ضُبّاطِ مُخابراتٍ، حتّى لو كان السَّبب صاروخٌ سوريٌّ “صَديق” ومِن صُنعٍ روسيٍّ.
نَشرَح أكثر ونقول أنّنا تَوصَّلنا إلى هذا الاستنتاج انْطِلاقًا من حَقيقتَين رئيسيّتين برَزا على السَّطح بعد ثَلاثَة أيّامٍ من إسقاطِ الطَّائِرة، والتَّطوُّرات السِّياسيّة والعَسكريّة التي ترتَّبَت عليه:
ـ الأُولى: تَوصُّل جميع الأطراف الرئيسيّة إلى قَناعةٍ راسِخةٍ أنّ الغارات الجويّة الصاروخيّة الإسرائيليّة في العُمُق السوريّ، وأيًّا كانت الأهداف التي تَضرِبها، بَدأت تتجاوز كُل الخُطوط الحَمراء، وتُوشِك أن تُعطِي نتائِج عكسيّة لزِيادَة أعدادِها، وعدم نجاحها في تحقيق أهدافِها، أي القَضاء على الوُجود الإيرانيّ في سورية، وإحراجِ الجانِب الروسيّ.
ـ الثاني: أنّ اللُّعبة الروسيّة المُزدَوجة بَدأت تَستنفِذ أغراضها، وتَرتَد سَلبًا، بطَريقةٍ أو بأُخرى، على القِيادة الروسيّة وصُورَتها في مِنطَقة الشرق الأوسط على الأقل، فروسيا حليفٌ لسورية وصَديقٌ استراتيجيٌّ لإسرائيل التي أغارت 210 مرّات عليها في 18 شَهرًا في الوَقتِ نفسه، وهِي حامِيَةٌ لسورية وتَخوض معركتها ضِد الإرهاب، وتمنع انهيار نظامها، وتَدعَم استعادة سيادتها على كل أراضيها، وتَغُض النَّظَر في الوَقتِ نَفسِه عن “احتلال” القُوّات التركيّة لأراضٍ لها في إدلب وعِفرين والباب، وتَدعَم فَصائِل مُعارِضة وتُسلِّحها وتَحمِيها.
***
خِطاب السيِّد حسن نصر الله، زعيم “حزب الله” الذي ألقاهُ بمُناسَبة ذِكرى عاشوراء يوم أمس كَشَف العَديد مِن الأُمور التي تُؤكِّد بصُورةٍ “ضِمنيّة” ما ذَكرناه آنِفًا، ولكنٍه بحُكم مَوقِعه، ومَسؤوليّاته كانَ أكثَر دِبلوماسيّة وحَذَرًا.
عندما يقول السيد نصر الله، وفي ذِكرى عاشوراء التي تُجَسِّد التَّضحِية وتُقَدِّس الشَّهادة، “الاعتداءات الإسرائيليّة على سورية لم تَعُد تَحتَمِل ويَجِب وقفها”، فإنّه لا يُخاطِب الحُلَفاء الرُّوس فقط، وإنّما السُّوريّون والإيرانيّون أيضًا ويُطالِب بِالرَّد.
إسرائيل لم تَعُد تَستهدِف قَوافِل صواريخ إيرانيّة في طَريقِها إلى حِزب الله مِن خِلال هَذهِ الغارات، مِثلَما كانت وما زالَت تَدَّعي، وإنّما تُريد مَنعَ القِيادة السوريّة نفسها من امتلاكِ تكنولوجيا إنتاجِ هَذهِ الصَّواريخ وتَعزيز ترسانتها العَسكريّة بالآلافِ مِنها، وكذلِك الحَيلولة دُونَ وجودٍ صاروخيٍّ إيرانيٍّ على أراضِيها، وبِما يُمَكِّنها مِن تحقيق الرَّدع الاستراتيجيّ الفاعِل والحاسِم.
الخُبَراء الاستراتيجيّون الإسرائيليّون أعرَبوا عَن قَلقِهم في الفَترةِ الأخيرة مِن القُدرات العسكريّة السوريّة المُتنامِية، وأكَّدوا أكثَر من مرّة أنّ الجيش العربي السوري الذي بات قريبًا من حَسمِ الحَرب لصالِحه سيُصبِح أقوَى، وأكثَر خِبرَةً وتسليحًا ممّا كانَ عليه حالُه قَبْلَ الأزَمَة.
السُّوريّون، وبدَعمٍ إيرانيٍّ، أقامَوا مَصانِع أسلِحَة في الشِّمال السُّوريّ، وتحت المِظلَّة الحِمائيّة الروسيّة، أي في غِلاف قاعِدَتيّ حميميم الجويّة قُرب اللاذقيّة، وطرطوس البحريّة، ويَبدو أنّ هَذهِ الخُطَّة الذكيّة أعطَت ثِمارَها، وجاءَ التَّعاطِي الإسرائيليّ مَعَها مُتَأخِّرًا ومُكلِفًا جِدًّا في الوقتِ نفسه بالنَّظرِ إلى التَّوتُّر في العلاقات الروسيّة الإسرائيليّة الرَّاهِن.
إنّ أهَم ما كشفت عنه أزَمَة سُقوط الطائرة الروسيّة وتَبِعاتِها، في رأينا، هو إقدام القِيادَة السوريّة على اتِّخاذِ قَرارٍ سِياديٍّ بالتَّصدِّي للطائِرات المُغيرة التي تَنتَهِك أجواءها، الأمر الذي يُعطِي “مِصداقيّةً” لكُل البَيانات العَسكريّة السَّابِقة التي كانَت تُؤكِّد إسقاط صواريخ إسرائيليّة وأمريكيّة مُغيرة، وهِي البيانات التي قُوبِلَت بالسُّخرِيَةِ والتَّشكيكِ في الكَثيرِ مِن الأحيان.
***
ما زِلنا على قَناعةٍ راسِخةٍ بأنّ الغُرور الإسرائيليّ، سواء بالتَّعاطِي مع روسيا الدَّولة العُظَمى، أو سورية وإيران و”حزب الله”، لن يَمُر دُونَ ردٍّ، والرئيس فلاديمير بوتين، على دَرَجةٍ مِن الدَّهاءِ وضَبط الأعصاب، بحَيثُ يَجْعَل إسرائيل تَدفَع ثَمَنًا باهِظًا مُقابِل إهانته بتَوفيرِ الأسباب لإسقاط طائِرته الاستطلاعيّة، في الأجواءِ السوريّة، وما المُناورات العسكريّة التي سارَعت بِلاده بإجرائِها حاليًّا قُبالَة السَّواحِل السوريّة في البَحرِ المتوسط، وقيَّدت بمُقتضاها الحَركة في المجالَين الجَويّ والبَحَريّ في المِنطَقة إلا بِدايَة الغيث، وخُطوَة أوّليّة للحَد مِن الاعتداءات الإسرائيليّة على سورية.
لا نَتردَّد في التَّحذير بأنّ الرَّد السوريّ الإيرانيّ على هَذهِ الغارات الاستفزازيّة الإسرائيليّة، ليسَ فقط مِن خِلال التَّصدِّي لها، وإنّما قَصف العُمُق الإسرائيليّ انتقامًا أيضًا، باتَ قريبًا، فقَد أوشَكَ كَيْلُ الصَّبرِ أنْ يَطْفَح.. والأيّام بَيْنَنَا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/09/21