لماذا رَفَضْت ارتِداء “بوبي” تَضامُنًا مَع “شُهَداء” الحَرب العالميّة الأُولى في مُقابَلتي على شاشَة التِّلفزيون البِريطانيّ..
عبد الباري عطوان
في مِثل هذا الوَقت مِن كُل عامٍ يَحرِص البِريطانيّون على وَضعِ “البوبي”، أو وردة شَقائِق النُّعمان الحَمراء، على صُدورِهِم تَضامُنًا مَع الجُنود الذين خَسِروا أرواحَهم في جَبَهات القِتال في الحَربِ العالميّة الأُولى.
كُنت، وما زِلت، أُشارِك في العَديدِ مِن البَرامِج التلفزيونيّة مُحلِّلًا أو مُعَلِّقًا، على شُؤون الشرق الأوسط، وكُنت الوَحيد تَقريبًا الذي يَشُذ عَن هَذهِ القاعِدة التي يَلتَزِم بِها المُذيعون والضُّيوف، بحَيثُ باتَ هذا السُّلوك مَوْضِع تَساؤلٍ لأعوامٍ عَديدةٍ.
سألني أحَد الزُّمَلاء مِن أُصولٍ أفريقيّةٍ في إحدَى المَرّات عن أسبابِ هذا الإصرار على عَدم ارتِداء هَذهِ الوَردَة الحَمراء، فقُلت له أنّ نِسبةً كبيرةً مِن هؤلاء الجُنود الذين مِن المُفتَرض أن أتضامَن معهم وأُخَلِّد أعمالهم، كانُوا يُحارِبوننا، ويُحتلّون أراضينا، ويَضعوها تَحتَ الانتداب الفِرنسيّ والبِريطانيّ، ويَقتَلون الآلاف مِن العَرب والمُسلِمين.
أسوق هَذهِ المُقدِّمة بمُناسَبة الاحتفالات الضَّخمة التي جَرت في باريس طِوال اليوم الأحد، في حُضورِ ستّين زَعيمًا مِن مُختَلف أنحاء العالم (ثلاثة منهم مِن العَرب المَغارِبة وليسَ بينهم مَشرقيًّا واحِدًا)، وعلى رأسِهم الرَّئيسيان الأمريكيّ دونالد ترامب والروسيّ فلاديمير بوتين، بمُناسَبة الذِّكرى المِئويّة الأُولى لانتهاءِ هَذهِ الحَرب، وتَوقيع مُعاهَدة سلام بين الطَّرَفَين المُتحارِبَين، أي ألمانيا وفرنسا وحُلفائِهما.
***
الحَرب العالميّة الأُولى شَهِدَت أكبَر خَديعةً لحُكّامِنا مِن قِبَل الإنكليز والفَرنسيين الذين طالبونا بالثَّورة على الدولة العُثمانيّة، باعتِبارنا مِن قوميّةٍ عِرقيّةٍ أُخرَى، مُقابِل أن يمنَحونا استقلالًا كامِلًا في إطارِ إمبراطوريّةٍ عَربيّةٍ مُوحَّدةٍ.
الشَّريف الحسين بن علي صَدَّق هَذهِ الأُكذوبَة وبَلَع الطُّعم البِريطانيّ، وأعلَن الثَّورة العربيّة الكُبرى، ولكن بعدَ انتهاءِ هَذهِ الحَرب نَكَثَ البِريطانيّون العَهد كعادتهم، وقَسَّموا مع الفِرنسيين الإرث العُثمانيّ في المِنطَقةِ العربيّة فيما بينهم في إطارِ اتفاقيّة سايكس بيكو، وأصدَر بِلفور وعده المَشؤوم بمَنحِ فِلسطين لليَهود لإقامَة وطَنِهِم القَوميّ على تُرابِها، وبَقيّة القِصَّة مَعروفة.
بعد مِئة عام، يُعيد التَّاريخ نفسه وتقوم الوِلايات المتحدة بالدَّور نفسه الذي قامَت بِه بريطانيا وفرنسا، وتُهَيء المَيدان لثَورةٍ عربيّةٍ كُبرَى ثانِية، وباسم الناتو السُّنِّيّ العَربيّ، للانْخِراطِ في حَربٍ مُماثِلةٍ، وهَذهِ المَرَّة ضِد إيران، وبمُشاركةٍ إسرائيليّةٍ.
الشريف الحسين بن علي أطلَق ثورته العربيّة الكُبرى مِن مكّة المُكرَّمة، وخليفته، بَل خَصْمُه السعوديّ، الملك سلمان بن عبد العزيز ورُبّما نَجله الأمير محمد بن سلمان، سيَكون القائِد العربيّ لتَحرُّكٍ “سُنّي عربيّ” تحت المِظَلَّة الأمريكيّة الإسرائيليّة تحت عُنوان التَّصدي للتَّمَدُّد الإيرانيّ الذي يُهَدِّد المِنطَقة، ومِن المُفارَقة أن الأُردن سيَكون عُضْوًا في حِلف “النّاتو” العَربيّ الجَديد الذي قد يُعلَن في شهر كانون الثاني (يناير) المُقبِل في قِمّة للدُّوَل الثَّماني (دُوَل الخليج السِّت إلى جانِب مِصر والأُردن) تُعقَد في واشنطن بِدعوةٍ مِن الرئيس دونالد ترامب إذا سارَت الأُمور وِفق المُخَطَّط المَرسوم الذي وضع خُطوطه العَريضة بنيامين نِتنياهو، وصِهر الرئيس جاريد كوشنر، أمّا وعد بِلفور الجديد فيَتمَثَّل في “صفقة القرن” التي تُعتَبر الشَّق الأساسيّ فيه، أي المُخَطَّط الأمريكيّ الإسرائيليّ المَذكور آنِفًا.
***
نَحنُ، وباختِصارٍ شَديدٍ، نَقِف أمام “خَديعةٍ كُبرى” رُبّما تَكون أكثَر خُطورةً مِن الأُولى، تَورَّطنا في حَربٍ سنَكون نَحن كعَرب وُقودًا لها، تَستَنزِف ثَرواتِناـ أو ما تبقَّى مِنها، وتَنتهي بتَدمير مُدننا وقُرانا، وحَرقِ آبار نِفطنا، مَع فارِقٍ أساسيٍّ وهو أنّ إسرائيل التي تُحَرِّض على هَذهِ الحَرب لن تَنجُو مِنها، وستَكون شريك بُلدان “النِّاتو العربي” في الخَراب والدَّمار، بطَريقةٍ أو بأُخرَى.
تَحوّلنا إلى “مِضحَكة” و”مَطيّة” لترامب ونِتنياهو، نُقاد إلى المَسلخ بأعْيُنٍ مَفتوحةٍ، ونَفخةٍ كاذِبَةٍ، وانقِساماتٍ غير مَسبوقة، والأخطَر مِن ذلِك تَسابُق الكَثيرين مِن أبناء جِلدتنا، وبعضهم في قِمّة السُّلطة، لتَزيين هَذهِ الخَطيئة، وتَسويقِها لشُعوب المِنطَقة.
مُعاهَدة السَّلام (فرساي) التي أنْهَت الحَرب العالميّة الأُولى لم تُعَمِّر إلا 20عامًا، وكانَت الأرضِيّة الخَصْبة لانفجارِ الحَرب العالميّة الثانية لِما ألحقته مِن ظُلمٍ وإذلالٍ بألمانيا.. ولا نَستبعِد أن يتَكرَّر السِّيناريو نفسه في مِنطَقتنا العربيّة، وتَكون إسرائيل وحُلفاؤها العَرب المُتواطِئين مع أمريكا الخاسِر الأكبَر في نِهايَةِ المَطاف.
السيِّد حسن نصر الله نَصَحَ الإسرائيليين بتَعَلُّم السِّباحة، والهَرب مُبْكِرًا لأنّه إذا اندَلعت الحَرب، لن يَجِدوا الوَقت للهُروب، وسَيكونون وقودها، ولا نَعرِف بماذا ننصَح حُلفاءهم العَرب، تخزين الماء مَثَلًا “تَحوُّطًا” لتَجَنُّبِ المَوت عَطَشًا؟ أم النُّزوح إلى دُوَلٍ مِثل العِراق وسورية واليمن التي رُبّما تَكون المَلجَأ الأكثر أمانًا؟ لن يَكون مُفاجِئًا بالنِّسبةِ إلينا إذا صَدَقَت نُبوءَة السيِّد نصر الله.. والأيّام بَيْنَنَا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/11/12