حَدَثان يُؤكِّدان التَّغيير المُتسارِع في المَشهدِ السُّوريّ..
عبد الباري عطوان
حَدَثان لفَتا الأنظار في اليَومين الماضِيين يَعكِسان حُدوثَ تَغييرٍ لافِتٍ في المَشهدِ السوريّ، بشَقّيه الداخليّ والخارِجيّ، أبرز عَناوينه استِقرار السُّلطَة، واتِّساعُ دائِرَة الاعترافِ بها، وعَودَتِها التَّدريجيّة إلى المُجتمع الدوليّ، في وَقتٍ تتراجَع فيه مَواقِف مُعظَم القِوى العربيّة والدوليّة التي كانَت تُقاتِل، وتَستَثمِر عَشَرات المِليارات لإسقاطِ النِّظام بالطُّرُقِ العَسكريّة.
ـ الحَدث الأوّل: الصُّورة التي جَمَعت الرئيس بشار الأسد وزوجته جَنْبًا إلى جَنْب مع السيد فاروق الشرع، نائِب الرئيس، الذي ظَلَّ في الظِّل بَعيدًا عَن الأضواء مُنذ آخِر ظُهور لَهُ عام 2013.
ـ الحَدث الثاني: الدعوة الرسميّة التي تلقّاها الرئيس الأسد للقِيام بزيارةٍ رسميّةٍ إلى موسكو، ونَقَلَها إليه رئيس جمهوريّة القِرم سيرغي اكسيونوف، وتَشمَل المُشارَكة في مُؤتمر يالطا الاقتصاديّ الدوليّ، وبِدْء الاستعدادات البروتوكوليّة والعمليّة لها.
***
بالنِّسبةِ إلى الحَدث الأوّل، أي ظُهور السيد الشّرع بجِوار الرئيس الأسد، فهذا أمْرٌ غَير مَسبوقٍ، فمُنذ أن تَردَّد اسم السيد الشّرع في بَعضِ الأوساطِ العربيّة والدوليّة كرئيسٍ بَديلٍ أو مُؤقّت لسورية في بِداية الأزَمَة، جَرى تهميش الرَّجُل كُلِّيًّا، وإعفاءه دُونَ قرارٍ رَسميٍّ، مِن جميع مَهامِه كنائِبٍ للرئيس، ويُحْسَب له مِن قِبَل الكَثيرين، داخِل سورية وخارجها، أي السيد الشرع، أنّه ظَلَّ وَفِيًّا للسُّلطة والرئيس الأسد بطَبيعة الحال، ورَفَضَ الانشِقاق عن الحُكم، واللُّجوءِ إلى الخارِج رُغمَ العُروض والمُغرَيات الكثيرة أُسوَةً بسِياسيين وقادَةٍ عَسكريّين آخَرين، وفَضَّلَ العيش في شَقّته “المُتواضِعة” في العاصِمةِ السوريّة.
صَحيح أنّ المُناسَبة التي التَقى بِها الرَّجُلان كانَت اجتماعيّة صِرفَة، أي تقديم واجِب العَزاء للدكتورة نجاح العطار في وفاةِ زوجها الطبيب محمد ماجد لطفي العظمة، ولكن هذا اللِّقاء لم يَكُن مَحضَ الصُّدفَة، فلا مَكان للصُّدفَة في سورية هَذهِ الأيّام، وكُل شَيء مَحسوبٌ ومُخطَّطٌ له بشَكلٍ دَقيقٍ، خاصَّةً عِندما يتَعلَّق الأمْر بالرئيس الأسد وتَحَرُّكاتِه.
الصُّورة التي سجّلت الحَدث تَعكِس في تقديرنا حالةَ الثِّقَة التي تسود السُّلطات السوريّة، وانحِسار “المُؤامَرة” التي قادَتها الوِلايات المتحدة، اشتَركت فيها أكثَر مِن ستّين دولة، وكانَت تَهدِف إلى تَغييرِ النِّظام بالطُّرِق العسكريّة في الوَقتِ نَفْسِه.
ظُهور السيّدة أسماء الأسد زوجة الرئيس، وقد ارتَدت غِطاءً للرأس لإخفاءِ سُقوط شَعرِها بفِعْل العِلاج الكيماويّ مِن مَرضِ السَّرطان، كانَ لافِتًا أيضًا، مِثلَما كانَ لافِتًا قَبْلها إعلان إصابتها بالمَرضِ نفسه وهو أمْرٌ نادِرُ الحُدوث في الدول العربيّة عِندما يتَعلَّق الأمر بالزُّعَماء وأُسَرِهِم، والأهَم مِن هذا وذاك أنّها لم تُغادِر البِلاد للعِلاج في الخارِج، وفَضَّلت البَقاء في دِمشق وتَلقِّي هذا العِلاج على أيادِي الأطبّاء السُّوريّين، وقد يُجادِل البَعض بأنّ أبواب العَواصِم الغربيّة مُغلَقةٌ أمامها، وهذا صَحيح ولكنّ أبواب موسكو والصين وكوبا، وهِي دُوَل عُظمَى (روسيا والصين) مُتقَدِّمة طِبِّيًّا مَفتوحةٌ أمامَها.
لا نَعتقِد أنّ السيد الشرع سيَستعيد دَوره كنَائبٍ للرئيس بعد انقِطاع، ولكن ظُهوره مُجَدَّدًا، رُبّما يُؤشِّر إلى بِدايَةِ مَرحلةٍ جَديدةٍ، ولا شَيء مُستَبعد في سورية اليوم، ألَم يتَصافَح مُقاتِلون كانوا في صُفوف المُعارضة مَع السُّلطة، وانضَمَّ بعْضُهم إلى الجيش السوري.
أمّا إذا انتقَلنا إلى الحَدث الثّاني، أي بِدء التَّحضيرات لزِيارَة الرئيس الأسد الرسميّة لموسكو تَلبِيةً لدَعوةٍ رسميّةٍ، فيُمكِن القَول أنّه حَدثٌ مُهِمٌّ، لأنّها المَرّة الأُولى التي تُوجِّه فيها روسيا هَذهِ الدَّعوة المُعلَنة للرئيس السوري مُنذُ بِدء الحَرب قبل سبع سنوات، فقَد كان الإعلان عَن زيارة الأسد لموسكو يَتِم بعد انتِهائِها، وعودَتِه إلى سورية، ونَشْرِ صُوَرِ لِقائِه مَع الرئيس فلاديمير بوتين.
ما زِلنا نُصِر بأنّ سورية تتعافَى، وتعود تَدريجيًّا إلى وضْعِها الطبيعيّ الذي كانَ قبل الأزَمَة، ورُبّما بصُورةٍ أفضَل، والأشقّاء الأُردنيّون الذين زاروا العاصِمة دِمشق مُنذ فتح الحُدود قبل ثلاثة أسابيع، وبعضهم نوّاب في البرلمان، يُؤكِّدون هَذهِ الحقيقة، ويتحدَّثون عن أمنٍ وأمان، واستقرار واختفاءٍ تَدريجيٍّ مُتسارِعٍ للحَواجِز الأمنيّة، وفُوجِئوا برُخصِ الأسعار، حتّى أنّ أحدهم تساءل “مَن الذي كانَ مُحاصَرًا، ويُواجِه حَربًا ضَروسًا بَلَدنا الأُردن أم سورية”؟ ولا يُضيرنا إعادَة نَشْر هذا التَّساؤل بسَببِ عَفويّته ومَعانِيه.
***
الأكثَر مِن ذلك أنّ العامَ المُقبِل سيَشْهدُ إعادَة افتِتاح العَديد مِن السِّفارات العربيّة والأجنبيّة، بعد حُدوثِ تغييرات في مَواقِف حُكوماتِها، وآخِرها المملكة العربيّة السعوديّة، التي أكَّدت في بَيانٍ رَسميٍّ دَعْمَها للحَل السِّياسيّ، واستقرارِ سورية، وعَلِمت “رأي اليوم” أنّ مسؤولين خليجيين مِن قطر والبحرين والإمارات زاروا دِمشق سِرًّا، أو التَقوا مَسؤولين سُوريّين في بيروت ودُوَل أُوروبيّة أو على هامِش اجتماعات الجَمعيّة العامّة للأُمم المتحدة.
المشهد السوري يتَغيّر، والمَرحلة المُقبِلة هِي مرحلة “إعادَة الإعمار” على كُل الصُّعد الاقتصاديّة السياسيّة والتنمويّة، وإزالِة آثَار الحَرب، وعَلِمنا مِن مَصدَرٍ وَثيقٍ أنّ التَّحضيرات جارِيَة لعَقدِ “أوسلو سوري”، ولكن بصُورةٍ مُختَلفةٍ عن “أوسلو” الفِلسطينيّ الإسرائيليّ سَيّء الذِّكر، وستَكون هُناك مُفاوضات مُباشِرة بين قِوى في المُعارضة السوريّة والسُّلُطات السوريّة في إحدى العَواصِم الأُوروبيّة، وتَسريع عَجَلة المُصالَحة الوطنيّة، وسَنُوافيكُم بالتَّفاصيل.. والأيّام بَيْنَنَا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/11/23