هنيّة في موسكو؟.. إنّها صَدمَةٌ صاعِقَةٌ للرئيس عبّاس والسُّلطة في رام الله وجَرَسُ إنذارٍ للاثْنَين..
عبد الباري عطوان
قُبول السيّد إسماعيل هنيّة رئيس المَكتب السياسيّ لحركة المُقاومة الإسلاميّة “حماس” لدَعوةٍ تَلقّاها مِن القِيادة الروسيّة وحَمَلها السفير الروسيّ لدَى دولة فِلسطين حيدر رشيد، لزِيارةِ موسكو، والالتِقاء بالمَسؤولين الروس على مُخْتَلف المُستَويات سيَكون لها وقْع الصَّدمة على قِيادَة السُّلطة الفِلسطينيّة في رام الله أوّلًا، والسُّلطات المِصريّة، وحُكومات عربيّة أُخرَى قاطَعت حركة “حماس″، وفتَحت عَواصِمها للمَسؤولين واللَّاعبِين الرِّياضيين الإسرائيليّين.
أهميّة هَذهِ الدَّعوة التي تُعتَبر فريدةً مِن نَوعِها، تأتِي مِن كَونِها جاءَت بعد الانتصار الكَبير الذي حقَّقته حركات المُقاومة في قِطاع غزّة بقِيادة “حماس” على الجيش الإسرائيليّ أثناء المُواجهة العَسكريّة الأخيرة، وتَزايُد الأنباء عن عَزمِ السُّلطات الروسيّة القِيام بمُبادَرةِ سلام، واستضافَة مُؤتَمر دوليّ لحَل قضيّة الصِّراع العَربيّ الإسرائيليّ، وِفْق قرارات الأُمَم المتحدة.
هَذهِ الدَّعوة عِندما تأتِي مِن وزارة الخارجيّة الروسيّة فإنّها تَعنِي اعتِرافًا سِياسيًّا بحَركة “حماس″، الأمْر الذي سيُثير قَلقْ الرئيس الفِلسطينيّ محمود عبّاس وأفراد قِيادته الذين احْتَكروا التَّمثيل الرَّسميّ الفِلسطينيّ، وتَفرّدوا بِه، وفَرضوا عُقوبات، وحِصار اقتصاديّ مُحاكاةً للحِصار الأمريكيّ على إيران على قِطاع غزّة، وعلى أمَل تَركيع الحركة ورضُوخِها لشُروطِه، أو حُدوث ثَورة شعبيّة داخليّة تُطيح بِها، أي “حماس” وسُلطَتِها، وهُوَ رِهانٌ ثَبُتَ فَشَله كُلِّيًّا، مِثْلَما ثَبُتَ قِصَر نَظَر الذين يَقِفون خَلفَهُ، مُنَفِّذين كانوا أو مُستَشارين.
***
حركة “حماس” فرَضت نفسها كقُوّةٍ رئيسيّةٍ سياسيّةٍ وعسكريّة، عَبر بوّابة المُقاومة بأشكالِها كافّة، وهِي السِّلاح الذي تخلَّت عنه قِيادة السُّلطة وذَهَبت إلى النَّقيض، أي التَّنسيق الأمنيّ مع الاحتِلال، والتَّجَسُّس على عَناصِر المُقاومة وتَقديم المَعلومات عنهم، واعتقالِهم في الوَقتِ نفسه خِدمةً لهُم، وهِي سابِقة لم تُقْدِم عليها أي مِن حركات التَّحَرُّر في العالَم.
المَشهد الفِلسطينيّ يتغيّر بسُرعةٍ، ففِي الوقتِ الذي تُقاطِع فيه جميع المُنظّمات والفَصائِل الوطنيّة، والمُستقلِّون اجتماعات المَجلِسين الوطنيّ والمركزيّ الفِلسطينيين التي دَعَا إليها الرئيس عبّاس في قلب المُقاطَعة في رام الله، نَجِدها تُلبِّي دعوة حركة “حماس″، وتقبَل الانضمام إلى غُرفَةِ عمليّاتٍ عَسكريّةٍ مُشتَركةٍ لإدارَة المعركة مَع جيش الاحتلال أثناء هُجومِه الأخير على قِطاع غزّة، وهذا تَطوُّرٌ مُهِمٌّ لنْ تَلتَفِت إليه قِيادَة السُّلطة في رام الله التي تَعيشُ حالةً مِن الإنكار والاستِكبار مَعًا، وتَعتَقِد أنّها ما زالَت في حيِّ الفاكهاني في بيروت، وليسَ تحت حِراب الاحتِلال في رام الله.
لا نُجادِل مُطْلَقًا بأنّ مَوقِف الرئيس محمود عبّاس المُتَمثِّل في مُقاطَعة المَسؤولين الأمريكيين ورَفضِ أيّ حِوارٍ مَعهَم، في إطارِ الرَّفض القاطِع لصَفَقَة القَرن، والقَرار الأمريكيّ بالاعترافِ بالقُدس المُحتَلَّة عاصِمَةً أبديّةً لدَولة الاحتِلال، مَوقِفٌ وطنيٌّ يَستَحِق التَّنويه، ولكنّه يَظَل ناقِصًا، بَل ومَوضِع شُكوك، بسبب مُواصَلة القِيادة الفِلسطينيّة في رام الله أعمال التَّنسيق الأمنيّ والاتِّصال بالمَسؤولين الإسرائيليّين، وكانَ صادِمًا بالنِّسبةِ إلينا عِندما اعتَرف الرئيس عبّاس بلقاءاتِه بِصِفَةٍ دَوريّةٍ مَع قائِد جِهاز “الشَّاباك” الأمنيّ الإسرائيليّ، وتَطابُق وُجُهات النَّظر بين الجانِبَين خِلالها حول مُعظَم القَضايا.
القِيادة الفِلسطينيّة في رام الله تَحدَّثت مِرارًا وتِكرارًا عَن تأييدِها للمُقاومة الشعبيّة كبَديلٍ للمُقاومةِ المُسلَّحة للاحتِلال، واستصدرت قراراتً عِدّةً عَن المَجْلِسين الوَطنيّ والمركزيّ، بوَقفِ التَّنسيق الأمنيّ وإلغاءِ اتِّفاقات أوسلو، وسَحبِ الاعتراف بدَولةِ إسرائيل، ولكنّها لم تُنَفِّذ أيّ مَن هَذهِ القَرارات، ولم تُصدِر الأوامِر بإشعالِ فتيل أيّ مُقاومة شعبيّة تَجعل مِن الاحتلال عمليّةً مُكلِفةً، وتُوقِف هَجمَته التَّطبيعيّة الشَّرِسَة والمُهينة مَع حُكوماتٍ عَربيّة.
بنيامين نِتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيليّ، زار مسقط، ويَستعد لشَدّ الرِّحال إلى المنامة، وهُناك أنباء غَير مُؤكِّدة بأنّ محطّته الثّالثة قد تَكون الخرطوم، بينَما اختتَم الرئيس التشادي إدريس ديبي للتّو زيارةً رسميّةً إلى القدس المحتلة، تَعهّد خِلالها بالتَّوسُّط مَع حُكومات دُوَل إفريقيّة أُخرَى، بَيْنَها السُّودانيّة، لإقامَة علاقات دِبلوماسيّة بيْنَها وتَل أبيب، ولم نَسمع كَلِمة واحَدة مِن السُّلطة والرئيس عبّاس اسْتِنكارًا، والصَّمت في عُرْفِنا العَربيّ هُوَ عَلامة الرِّضا.
ما زِلنا نُؤمِن أنّ مُنظَّمَة التّحرير الفِلسطينيّة هِي المُمَثِّل الشّرعيّ والوحيد للشَّعب الفِلسطينيٍ، ولكن المُنظّمة التي نَعنيها هي التي تتصدَّى للاحتِلال وتُقاوِمُه، والتَّطبيع معه، لا المُنَظّمة التي تُنَسِّق أمْنِيًّا معه، وتُشَرِّع كُل أنواع التَّطبيع الرَّسميّ والشَّعبيّ مَعَهُ، مِن قِبَل العَرب الآخِرين.
حَركات المُقاومة الفِلسطينيّة في قِطاع غزّة اختارَت الوُقوف في خَندقِ مِحوَر المُقاومة، وبِناء قُدرة ردع عسكريّة مُتطوِّرة أرهَبَت الإسرائيليّين ودَفَعَت إلى استِجداء وَقفِ إطلاق النّار في حَربِ الـ48 ساعة الأخيرة، فأيْنَ تَقِف السُّلطة الفِلسطينيّة بعد 25 عامًا مِن المُفاوَضات العبثيّة والتَّنسيق مَع الاحتِلال؟
***
نَتمنّى أن نَحصُل على إجابةٍ مِن الأشقّاء في حركة “فتح” التي أطلَقت الرَّصاصة الأُولى، وقَدَّمت آلاف الشُّهَداء والجَرحى والأسرى طِوال فترة مَسيرَتها النِّضاليّة المُشَرِّفة لأكثَر مِن نِصف قَرن، وأن تتمرَّد على هذا الوَضع المُزرِي الذي تعيشه هَذهِ الأيّام، وتَعود مُجَدَّدًا إلى ينابيع كفاحِها الأُولى والجُلوس خلف عَجَلة قيادة عَربَة المُقاومة بأشكالِها كافَّةً، وحينِها ستَكون المُصالَحة الفِلسطينيّة التي نَتمنّاها جَميعًا، وعلى أرضيّة المُقاوَمة، تَحصيلٌ حاصِلٌ.
خِتامًا نقول، أنّه بعد هَذهِ الدَّعوة مِن القِيادة الروسيّة يجب أن تتغيّر النَّظرة المِصريّة الرسميّة إلى فَصائِل المُقاومة الفِلسطينيّة، ومِن ضِمنها حركة “حماس” و التَّعاطِي معها مِن الزَّاوية الأمنيّة، فالقَضيّة الفِلسطينيّة ليسَت قضيّةً أمنيّةً تتوكّل بِها المُخابرات المِصريّة، وليسَ القِيادة السياسيّة المِصريّة، ونتَمنّى على السيّد إسماعيل هنيّة وكُل قادَة المُقاومة، أن يحصَروا لِقاءاتهم بالمَسؤولين السِّياسيين فقط، وأن يتركوا اللِّقاءات بالمُخابرات المصريّة لقِيادات استخباريّة مُوازِيَة، ولتَكُن لقادَة أذرُع المُقاومة، فمِن غَير المَنطقيّ أن يلتَقِي السيّد هنيّة والوفد المُرافِق له سيرغي لافروف، وزير الخارجيّة، وربّما الرئيس بوتين، بينَما تنحَصِر لقاءاته في القاهرة برئيس المُخابرات المِصريّة فَقَطْ.
القضيّة الفِلسطينيّة وصَلَت إلى أدنَى مُستَويات الاحترام والاهتِمام العالميين، بسَبب الهَرولة نَحو السَّلام الإسرائيليّ المَغشوش، بَل والمَسموم، الذي فَكَّ ارتباطِها مَع مُعظَم العَرب والمُسلمين، وحانَ الوَقت لإصلاحِ هذا الخَطَأ الاستراتيجيّ على الصُّعُدِ كافّةً، وحينَها لنْ تَجرُؤ عاصِمة عربيّة واحِدة على استِقبالِ نِتنياهو أو وزرائِه، خَوْفًا مِن شُعوبِها التي لا نَشُكْ مُطْلَقًا في وَطنيّتها وإخلاصِها للقَضيّةِ المَركزيّةِ العَربيّةِ الأُولى.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2018/11/29