قمة بوينس آيرس: دروس لم تستوعب
د. سعيد الشهابي
أما مقولة «الاستفادة من التجارب» فهي فضفاضة ولا تنطوي على معطيات حقيقة توحي بذلك. ومن يقل أن من الخطأ عدم جدوى الجهود التي تسعى لتكرار اختراع العجلة بعد مرور آلاف السنين على اختراعها الأول، فان هذا الخطأ يتكرر بدون توقف. يصدق هذا القول على تجارب الشعوب مع حكامها، ومع علاقات الدول في ما بينها ومع المؤسسات الدولية التي ينطلق قادتها للعمل الدولي المشترك بهدف تقليص الاحتكاك أو بذل المزيد من الجهود لإعادة اختراع العجلة. إنها دوامة من الضياع التي لم تستطع القمم الدولية وقف دورانها في حلقات مفرغة.
لماذا يتعثر العمل الدولي المشترك؟ ولماذا تم تهميش عمل الأمم المتحدة كهيئة دولية جامعة تهدف لاحتواء التوترات السياسية ومنع الحروب ووقف المشتعل منها وتطوير العلاقات الدولية وحماية الشعوب من الظلم والاستبداد والاضطهاد والعنصرية والعبودية؟ ما الخطأ الذي حدث على الصعيد الدولي وحال دون تفعيل العمل المشترك وساهم بتهميش دور الأمم المتحدة؟ من المتضرر من ذلك العمل ولماذا تلاشت الرغبة التي نمت بعد الحرب العالمية الثانية وساهمت في صياغة الكم الهائل من التشريعات الدولية التي تحكم اغلب قطاعات المجتمع الإنساني المعاصر؟ يبدو أن العامل المحوري في العمل الدولي، تقدما أو تراجعا، يدور حول مواقف الولايات المتحدة وسياساتها وتوجهاتها. فهي ما تزال البلد الأقوى سياسيا وعسكريا واقتصاديا، وأنها تتجه للتموضع في واحد من الموقعين: فأما العزلة التامة عن العالم وترك العمل الدولي المشترك، أو الهيمنة المطلقة على بقية دول العالم. وكلاهما مرفوض في العرف الدولي ولا تقبل به الدول الكبرى سواء روسيا أم الاتحاد الأوروبي أم الصين أم الهند. ومنذ أن صعد ترامب إلى رئاسة بلاده لم تخل واحدة من فترات حكمه من قرارات مثيرة للجدل وباعثة على الإحباط من العمل المشترك.
فانسحاباته المتكررة من اتفاقات دولية مهمة (ومن أهمها الاتفاق النووي مع إيران) ساهمت في تعميق الشعور العام بالرغبة في العيش في عالم يخلو من الهيمنة الأمريكية. كما أدخل دول العالم في دوامة من الاضطراب السياسي والعلاقات الدولية والاقتصادية أدت لتلاشي الثقة في العمل المشترك بشكل عام. وكان يفترض أن تكون قمة الدول العشرين جامعة للدول الأكثر نفوذا وتأثيرا على مسارات الاقتصاد والسياسة في العالم. هذه الدول تستحوذ على حوالي 80 بالمائة من اقتصادات العالم، ويمتلك اغلبها مشاريع سياسية واقتصادية ويتطلع لتعامل دولي على أساس الاعتراف المتبادل والتعامل بالمثل والإيمان بالعمل المشترك والتخلي عن النزعة الأحادية والانطواء وما يسمى «الحمائية» الاقتصادية.
صحيح أن القمة أقرت أن 19 من بين 20 دولة ملتزمة باتفاقية باريس لحماية المناخ العالمي وان ذلك الاتفاق «لا عودة عنه»، لكن المواقف الأمريكي اضعف بريق ذلك الإقرار. وصحيح كذلك أن القمة أصرت على اعتماد منظمة التجارة العالمية كمرجعية للعلاقات التجارية بين دول العالم ولكنها انحازت لموقف إدارة ترامب قائلة إنّ التجارة المتعدّدة الأطراف «لم تتمكّن من تحقيق أهدافها» بتعزيز النمو وخلق فرص عمل، ودعت لإصلاحها، الأمر الذي قلل من بريق المنظمة وبرر مواقف الإدارة الأمريكية. كما أقرت القمة الدور المحوري لصندوق النقد الدولي في اقتصادات دول العالم، سواء الممولة له أم المقترضة منه. ولكن ذلك يعتبر تكريسا لهيمنة النظام الرأسمالي على العالم برغم إخفاقات مؤسساته النقدية التي أدت للكارثة الاقتصادية الدولية التي حدثت قبل عشرة أعوام وتراجع إداء القطاع المصرفي.
من المؤكد أن انتشار ظاهرة الفساد الاقتصادي واحدة من أهم الأمراض التي تقلق شعوب العالم. هذه الظاهرة لم تنحسر أبدا بل يتوسع انتشارها وتتبدل أشكالها. هذا الفساد لا ينحصر بشكل واحد من أشكال التعامل بين الدول في ما بينها أو في مؤسساتها فحسب، بل أنها توسعت كثيرا في الأعوام الأخيرة حينما سمح لبعض الدول الأعضاء باستغلال قوتها العسكرية المفرطة لنهب ثروات الشعوب الأخرى الأقل ازدهارا وتطورا. فماذا تعني الصفقات العملاقة التي وقعتها السعودية مع الولايات المتحدة والتي تتجاوز 500 مليار دولار؟ ماذا تعني المخصصات الكبيرة لمدراء الشركات العملاقة؟
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2018/12/10