حديث أردوغان وبوتين عَن إحياء “مُعاهدة أضنة” هل يأتِي مُقدِّمةً لمُفاوضاتٍ تركيّةٍ سوريّةٍ مُباشرةٍ؟
عبد الباري عطوان
مَن تابع المُؤتمر الصحافي الذي عقَده الرئيسان الروسيّ فلاديمير بوتين والتركيّ رجب طيّب أردوغان في خِتام القمّة التي جمَعتهما أمس الأربعاء في موسكو واستَغرقت ثلاث ساعات، يخرُج بانطباعٍ مفاده أنّ المُباحثات المُباشرة السوريّة التركيّة باتَت وشيكةً، وأنّ الهُجوم التركيّ الروسيّ “المُشتَرك” لإنهاء وجود، وهيمَنة، هيئة تحرير الشام “النصرة سابقًا” على مدينة إدلب وضواحيها جَرى الاتِّفاق عليه، وتحديد ساعة الصفر لبدئه، والتنفيذ ربّما بات مسألة أيّام أو أسابيع معدودة.
كان لافِتًا “تذكير” الرئيس بوتين للاتِّفاق الأمنيّ السوريّ التركيّ المُوَقَّع عام 1998 (معاهدة أضنة)، وتأكيده أنّه يمكن “أن يُزيل العديد مِن العراقيل المُتعلِّقة بتحقيق تركيا لأمنِها على الحُدود الجنوبيّة”.
حديث الرئيس الروسي عن هذه المُعاهدة جاء للمرّة الأُولى منذ بِدء الأزمة السوريّة في آذار (مارس) عام 2011، وهذا يعني أنّها كانت مُتصَدِّرةً لمائدة المُفاوضات مع الرئيس أردوغان في قمّة موسكو، وربّما يُؤدِّي إحياؤها إلى حل جميع المشاكل بين البلدين الجارين (تركيا وسورية) وانعِدام الحاجة إلى المِنطقَة الآمِنة التي اقتَرحها الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب على طُول الحُدود التركيّة وبعُمق 20 كيلومترًا داخِل الأراضي السوريّة.
***
ما يُؤكد قناعتنا هذه ثلاث نُقاط رئيسيّة وردت في المُؤتمر الصحافي المَذكور سواء على لسان الرئيسين التركيّ والروسيّ، أو وزير الخارجيّة مولود جاويش أوغلو:
الأُولى: تأكيد أردوغان أنّه لا مطامع احتلاليّة لبلاده في سورية، وأنّ تركيا لم تسع إلا لضمان أمن مُواطنيها، ووجود قوّاتها على الأراضي السوريّة يأتي لأسبابٍ إنسانيّةٍ بحتَةٍ.
الثّانية: إشارة السيد مولود جاويش أوغلو، إلى مُعاهدة أضنة ونص بُنودها على إلزام الجانب السوريّ بمُكافحة التنظيمات “الإرهابيّة” التي تُهدِّد أمن تركيا وحُدودها وتسليم “الإرهابيّين” إلى أنقرة، مُؤكِّدًا أنّ تنظيم وحَدات حماية الشعب الكرديّة تنظيم “إرهابي” يُشكِّل امتِدادًا لحزب العُمّال الكردستانيّ الذي يسعى إلى تقسيم البِلاد.
الثّالثة: تأكيد السيد جاويش أوغلو لأوّل مرّة على أنّ بلاده تُجرِي اتّصالات غير مُباشِرة مع الحُكومة السوريّة دُون أن يَذكُر أيّ تفاصيل.
إعادة العمل بمُعاهدة أضنة التي التَزمت سورية بجميع بُنودها فورَ توقيعها في زمن الرئيس الراحل حافظ الأسد يُحتِّم جُلوس الطَّرفين السوريّ والتركيّ على مائِدة المُفاوضات المُباشرة، وبحث الخُطوات التنفيذيّة اللَّازِمَة لتطبيقها مُجَدَّدًا على أرضِ الواقِع.
السيد جاويش أوغلو قال في حديثٍ لمحطّة تلفزة محليّة أنّ هذه المُعاهدة تُلزِم الجانب السوري بمُكافحة التنظيمات الإرهابيّة التي تُهدِّد أمن تركيا وحُدودها وتسليم أعضائها إلى أنقرة، وفي حال لم تفعل السلطات السوريّة ذلك، فإنّه مِن حق القُوّات التركيّة التَّوغُّل في أراضيها حتّى عُمُق خمسة كيلومترات لمُطاردتهم.
هذا كلامٌ جميلٌ، وسيُثير استِغراب، وربّما ترحيب، المسؤولين السوريّين أو مُعظَمهم، ولكن الأمر المُؤكَّد أنّ السيد أوغلو ورئيسه أردوغان يُدرِكان جيّدًا أنّ هذه المُعاهدة طَريقٌ مِن اتّجاهين، وهي مُلزِمَة للطَّرفين، وتنُص أيضًا على تسليم “العناصر الإرهابيّة” التي تُهدِّد أمن سورية واستقرارها، ولدى السلطات التركيّة الآلاف من المَطلوبين للحُكومة السوريّة.
بمُقتضى مُعاهدة أضنة التي وقُعها الرئيس الأسد الأب أوقَفت السلطات السوريّة دعمها لحزب العُمّال الكردستانيّ، وأبعدت رئيسه عبد الله أوجلان من أراضيها، وأغلقت جميع مُعسكراتِه في سورية ولبنان، ومنعت أعضاء الحزب من التّسلُّل إلى الأراضي التركيّة، وربّما يُجادِل الطرف السوري بأنّ نظيره التركيّ هو الذي اختَرق هذه المُعاهدة عِندما سمح للمُسلّحين من المعارضة السوريّة، المُتشدِّدة أو غير المُتشدِّدة، للتَّسَلُّل عبر أراضيه للقِتال في سورية لإسقاطِ النظام.
الحُكومة السورية لم تتعاون مع وحدات حماية الشعب الكرديّة، ولا مع حزب العمال الكردستاني، أيّ أنّها لم تلعب ورقة المُعارضة الكرديّة المُسلّحة ضِد تركيا، وكظَمت الغَيظ، واتّبعت سياسة النَّفس الطَّويل مُصيبةً، ولهذا لن يَجِد نُظراؤها الأتراك إلا القليل مِن الحُجج لمُجادلتهم في المُفاوضات المُتوقَّعة بين الجانِبين لإحياء المُعاهدة المَذكورة.
السؤال الذي لا نستطيع تجنُّب طرحه هو: هل ستسلم السلطات التركيّة قادَة المُعارضة السوريّة المُقيمين على أراضيها في إطار صفقة تبادل “الإرهابيين” في أيِّ تفاهُمات مُقبِلة برعايةٍ روسيّة في حالِ إحياء هذه المُعاهدة؟
***
لا نملك الإجابة، لكن هناك مؤشرات توحي باحتمال حدوث هذه الفرضيٍة، ولا نستبعد أن تكون أوّل خُطوة بتطبيق معاهدة أو اتّفاق أضنة مُجدَّدًا، القضاء على تنظيم “هيئة تحرير الشام” في إدلب، ونستند في ذلك على قول الرئيس بوتين في المؤتمر الصحافي المذكور “إن هُناك اتِّفاقًا روسيًّا تركيًّا بالاستمرار في محاربة “جميع” التنظيمات الإرهابيّة أينما كانت، بِما في ذلك في منطقة إدلب تحديدًا، وعلى مبدأ وحدة الأراضي السوريّة”، وأعلن الرئيس أردوغان “أنّ الدولتين (روسيا وتركيا) ستَخوضان معركةً طويلةً في سورية ضِد الإرهاب”.
باختصارٍ شديد، يُمكِن القول أن مُعاهدة أضنة في حال إحيائها، وهذا أمر شبه مُؤكِّد، ستُلغِي الحاجة إلى إقامة منطقة حُدوديّة آمنة، التي تُواجه خلافات جذريّة بين مُعظَم الأطراف، وستعمل مثلما ينُص أحد بُنودها على إنهاء جميع الخِلافات بين البَلدين الجارين (سورية وتركيا)، وإنهاء الأزمة السوريّة، وعودة العلاقات التركيّة السوريّة، وتحقيق الرئيس بوتين أعظَم إنجازاتِه في الشرق الأوسط.
لا نستبعد أن تكون القمّة الثلاثيّة الروسيّة التركيّة الإيرانيّة الشهر المُقبِل في موسكو هي منصّة إعلان هذا الإنجاز جُزئيًّا أو كُلِّيًّا، وفتح صفحة جديدة في العلاقات التركيّة السوريّة.. بمُباركةٍ روسيّةٍ إيرانيّةٍ.. وبوتين أعلَم.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/01/25