«ديموقراطية السوق» المنحسرة
وليد شرارة
شهد شاهد من أهلها: «ديموقراطية السوق» بخطر فهي تنحسر على النطاق العالمي. من يقرأ مقالة روبرت كاغان الأخيرة على موقع دورية «فورين بوليسي»، وهو أحد أبرز منظري المحافظين الجدد والمبشرين بنشر الديموقراطية أو فرضها بكل الوسائل، يدرك مدى الإحباط الذي أصابه وتياره. يتحدث كاغان عن الديموقراطية، لكن الأدق هو ربطها بالسوق الرأسمالية كما فعل أنتوني لايك، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، لأنها الديموقراطية المحققة فعلاً لا تلك المتخيلة في أطروحات بعض المفكرين. سبق للايك، عندما كان يمارس مهامه كمستشار، أن عرف في خطاب شهير عنوانه «من الاحتواء إلى التوسع»، ألقاه في جامعة جون هوبكينز في أيلول 1993 ما يعتبره المفهومين المركزيين للنموذج الذي تريد الولايات المتحدة تعميمه على النطاق العالمي. قال لايك أن مسار انتشار الديموقراطية، وذلك الخاص باقتصاد السوق، «مسارين متكاملين لأن الديموقراطية وحدها قد تحقق العدل لكنها تعجز عن تأمين الشروط المادية الضرورية للرخاء وقد تسمح السوق بمراكمة الثروات لكنها بدورها تعجز وحدها عن إشاعة العدل الذي يؤمن أسباب بقاء المجتمعات المتحضرة». ألقي هذا الخطاب في أوج الشعور الأميركي بالانتصار، يشي به استخدام مفهوم «التوسع» في عنوانه، وإشارة مستشار الأمن القومي إلى تراجع عدد البلدان ذات الاقتصاد الموجه من عشرة إلى ثلاثة آنذاك. المقارنة بين كلام لايك وكاغان، بالإضافة لكونها باعثاً للسرور والتشفي عند جميع أعداء الولايات المتحدة، تؤكد أننا نشهد نهاية حقبة في التاريخ العالمي، أرادها البعض أن تكون حقبة توسيع نموذج ديموقراطية السوق، ودخول هذه الأخيرة في أزمة وجودية. والأنكى بالنسبة لهؤلاء، هو أن بين الأسباب الرئيسية لهذه الأزمة انفلات السوق من عقاله، وما نجم عنه من تداعيات سياسية واجتماعية تهدد أسس النظام الديموقراطي وتعبد الطريق، برأي كاغان، لعودة «الأوتوقراطية».
لا يتطرق كاغان في مقالته، التي تنشرها «الأخبار» اليوم مترجمة، إلى العوامل البنيوية التي تفسر انحسار الديموقراطية على الصعيد العالمي. أهم هذه العوامل هو تراجع قدرة الولايات المتحدة على السيطرة العالمية نتيجة للحروب الطائشة التي تورطت بها في العقود الثلاثة الأخيرة وأكلافها الباهظة المادية والسياسية، وتجاهلها، نتيجة الثقة العمياء بالنفس الملازمة لغرور القوة، لتنامي القدرات الصينية وتعافي روسيا السريع نسبياً. ما كانت ديموقراطية السوق لتزدهر لولا الهيمنة الأميركية ويرتبط انحسارها الآن بالتراجع المستمر لهذه الهيمنة. من هذه العوامل أيضاً تلك المرتبطة بالعولمة النيوليبرالية نفسها، التي أحسنت بعض بلدان الجنوب، كالصين مثلاً، استخدامها رافعة لنمو اقتصادي متعاظم سمح بتحولها منافساً جدياً للرأسماليات العريقة. وقد كانت للعولمة نتائج داخلية في الدول الغربية منها الاضمحلال المتسارع لدولة الرعاية وتعمق الفوارق الطبقية والانقسامات الاجتماعية وعودة الاحتجاجات الشعبية الواسعة النطاق والطويلة الأمد كما تظهر حركة السترات الصفراء في فرنسا (تخصص «الأخبار» مقالين آخرين للتطورات المرتبطة بالاحتجاجات الشعبية في فرنسا ومفاعيلها السياسية والفكرية). على رغم هذا التعامي المتعمد من قبل منظر المحافظين الجدد، فإن مقالته تتضمن اعترافين هامين. الأول هو إقراره بمسؤولية الولايات المتحدة عن المساهمة بتشجيع عودة النظم المستبدة عبر اعتمادها مجدداً «لعقيدة نيكسون» القائمة على الشراكة مع وكلاء محليين أقوياء دفاعاً عن المصالح الأميركية ولمواجهة الخصوم. كانت الولايات المتحدة يومها متورطة في حروب فيتنام وكمبوديا واللاوس، فاستندت إلى حلفاء كإسرائيل والأنظمة الديكتاتورية في أميركا الوسطى واللاتينية وجنوب شرقي آسيا والعربية السعودية وشاه إيران للتصدي لحركات التحرر الوطني وللاتحاد السوفياتي الذي تحالف معها بدرجات متفاوتة. وهي تعمل اليوم على إحياء تحالفات شبيهة مع أنظمة من نمط مشابه في السعودية ومصر والبرازيل ورعاية المحاولات الانقلابية كما يجري في فنزويلا في إطار عملية إعادة تموضع تهدف إلى استكمال استراتيجية احتواء الصين كأولوية وبسط سيطرتها مجدداً على وسط وجنوب القارة الأميركية التي تبغي إلى تحويلها مجدداً حديقة خلفية، بعد أن فقدت السيطرة على قسم واسع منهما في العقدين الماضيين. يعني ذلك تراجعاً نسبياً في وجودها المباشر في مناطق كالشرق الأوسط والمزيد من الاعتماد على الحلفاء المحليين. على ضوء هذه الوقائع، يكتسب مؤتمر وارسو الذي سيعقد في الأيام المقبلة معاني إضافية غير هدفه المعلن وهو مواجهة إيران. المطلوب هو تفعيل دور الوكلاء للحفاظ على السيطرة، بعد الانسحاب الجزئي للأصيل.
الاعتراف الثاني هو ذلك المتعلق بانتشار مزاج سياسي بين شعوب الغرب، وبلدان أخرى، ملائم لصعود الفاشية. يعيد كاغان هذا الصعود إلى أزمات وتعثرات المؤسسات السياسية في البلدان الديموقراطية وعملية صناعة القرار فيها. يتجاهل معطى آخر شديد الخطورة، وهو تشجيع ورعاية قطاعات بعينها من النخب الرأسمالية لصعود التيارات الفاشية، كما كانت الحال مع الفاشيات القديمة التي دعمتها قطاعات من الرأسماليتين الألمانية والإيطالية. وهو يتناسى دور رفيق درب ترامب، ستيفن بانون، وفريقه، في مساندة قادة من أمثال ماتيو سالفيني في إيطاليا وبولسونارو في البرازيل ومارين لوبن في فرنسا. تدفع أزمة الرأسمالية أوساطاً نافذة في داخلها للرهان على الفاشية.
صحيفة الأخبار اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/02/05