اليوم نلتقي لتحيّة المعلم بطرس البستاني: اليوم العالمي للغة العربية... يوم للمقاومة
ناصر قنديل
– لمن لا يعلم ويجب أن يعلم، أنّ اللغة العربية أغنى لغات العالم وأجملها وأكثفها في تظهير المعاني، وفي تفاصيل الجرس الموسيقي المصاحب لها، وفقاً لأكبر علماء الألسنية في العالم، وأنها أعطت سائر اللغات بمعدل ضعف ما أخذت منها، من مفردات وقواعد في تركيب الجمل. واللغة العربية هي حاصل امتزاج حضاري للغات البلاد الأصليّة، ولكن الثقل الوازن في أصولها هو للغات التي سادت بلاد الشام، وفي طليعتها الآرامية والسريانية، واللغة في علم الاجتماع والتاريخ تتراوح بين اعتبارها عنصراً مكوّناً لتشكل الأمم، أو وعاء المخزون الحضاري لأكثر من أمة. وفي الحالين هي نصف الهوية، إنْ لم تكن كلها، فاللغة الإنكليزية تحتزن ثقافة البريطانيين والأميركيين، وبالنسبة لبلادنا بين المؤمنين بالأمة العربية والداعين لأمة سورية او الذين يقولون بالأمة الإسلامية، مكانة اللغة العربية واحدة، سواء كشرط لقيام الأمة، أو كوعاء جامع لتراثها وحضارتها، أو بصفتها لغة القرآن بالنسبة لمفهوم الأمة الإسلامية بمعناها الحضاري الأعلى من العصبيات والطائفيات والمتّسع لكلّ الديانات، فمنزلتها غير قابلة للتهوين والتضعيف والإهمال، ويشكل الدفاع عنها والاحتماء والاحتفاء بها بعضاً تأسيسياً هاماً من معركة تثبيت الهوية وحمايتها، بمثل ما يشكل العدوان عليها وتسخيف قيمتها، والاستهزاء بمكانتها محوراً رئيسياً في كلّ مشروع أجنبي لكسر الأمة وتهوين عناصر منعتها، وهو هنا فعل مقاومة.
– في مواجهات الحركات المقاومة لكلّ استعمار عصف ببلادنا وحاول تركيعها، كانت اللغة العربية خط اشتباك أول، فحاول المعتدون النيل منها، وقاد المقاومون معارك الدفاع عنها، وكما لا يمكن نسيان معارك التتريك التي خاضها العثمانيون في بلاد الشام أو المشرق العربي، ولا يمكن تجاهل معارك التثبيت والطباعة والنشر التي أسس لها الطليعيون في مشروع التحرّر والنهضة، لا يمكن أيضاً نسيان معارك الدفاع عن اللغة العربية بوجه محاولة الفرنسة التي شهدتها بلاد المغرب العربي وفي طليعتها الجزائر، وبمثل ما كان تقويم حصيلة كلّ مواجهة بين الأمة بمفاهيمها المتعددة وبين المشروع الاستعماري بتشكيلاته المختلفة، ممكناً في قراءة مسار اندحار المستعمر، فهو ممكن أكثر، بقراءة مسار المواجهة بين اللغة العربية ومحاولة محو حضورها، لا بل إنه يمكن القول إنّ الفعل الحاسم في هزيمة المشروع الاستعماري يُكتب للرواد الذين خاضوا معارك الدفاع عن اللغة العربية، ليصير الاحتفال بيوم عالميّ للغة العربية بعضاً من الوفاء لهؤلاء الرواد، الذين دفع بعضهم عمره لخوض معارك الدفاع عنها، وخسر بعضهم حياته في المواجهات التي نذر نفسه لخوضها.
– بالعودة إلى إحياء الأمم المتحدة لليوم العالمي للغة العربية، الذي مرّ قبل شهور، كترجمة لاعتماد اللغة العربية لغة رسمية سادسة إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية، نجد أنّ اليوم الذي تمّ اختياره وهو 18 كانون الأول، لا ينطلق من أيّ حافز يحرّك حماسة الناطقين باللغة العربية لإحيائه، أو يكرّم رموزاً عالمية للغة العربية قادوا المقاومة الثقافية لإبقائها حية، أو يحيي مكانة رواد نهضويين ساهموا بمنح اللغة العربية صفتها العالمية، وهو المنهج الذي اعتمدته الأمم المتحدة في اختيار الأيام الخمسة الموازية، فعلى موقع الأمم المتحدة نشر إحياء الأيام الخمسة كما يلي:
– 20 آذار/ مارس – يوم اللغة الفرنسية- اليوم الدولي المعتمد من فرنسا للفرانكفونية.
– 20 نيسان/ أبريل – يوم اللغة الصينية- تخليداً لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية الصينية.
– 23 نيسان/ أبريل – يوم اللغة الانكليزية- الذكرى السنوية لوفاة الكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير.
– 6 حزيران/ يونيه – يوم اللغة الروسية- الذكرى السنوية لميلاد الشاعر الروسي ألكساندر بوشكن.
– 12 تشرين الأول/ أكتوبر – يوم اللغة الإسبانية – يوم الثقافة الإسبانية المعتمد في إسبانيا.
– 18 كانون الأول/ ديسمبر – يوم اللغة العربية – يوم إدخال الأمم المتحدة اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة.
– بدأ الصديق الأستاذ والباحث السوري جورج جبور حملة لتغيير موعد اليوم العالمي للغة العربية وجعله في 27 أيلول من كلّ عام، وهو يوم ميلاد الشاعر الكبير أبي الطيب المتنبي، وبدعوة من النائب البروفسور فريد البستاني يتشاور عدد من الأصدقاء من الأدباء والمفكرين والسياسيين والناشطين في لبنان بالدعوة لاعتماد يوم آخر للمناسبة هو الأول من أيار، يوم الذكرى السنوية لوفاة المعلم بطرس البستاني، الذي تحلّ المئوية الثانية لميلاده عام 2019، وفيما يكتب للدعوة الأولى شرف المبادرة وقيمة إحياء عظمة المتنبي، يكتب للدعوة الثانية عمق البحث عن المعاني التي يحتاجها إحياء يوم كيوم عالمي للغة العربية. فالمعلم البستاني أول مؤسس لأول قاموس عربي عربي باسم دائرة المعارف، وآخر عالمي وبقواعد عالمية باسم المحيط في المحيط، وهذا أول ما تحتاجه اللغات لتصير عالمية، وهو أحد الذين اشتغلوا على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، حتى صار المسيحيون العرب، مسيحيين بالعربية، والركن المسيحي في الهوية المشرقية ومفهوم الأمة السورية أو الأمة العربية أو حتى في مفهوم الأمة الإسلامية، هو نكهتها الحضارية المميّزة، والمعلم بطرس البستاني من أوائل ناشري الصحف باللغة العربية، وهذا ركن ثالث في عالمية اللغة.
– في اليوم العالمي للغة العربية أوجّه تحية خالصة للدكتور جورج جبور على مبادرته الوجيهة والنبيهة، وأضمّ صوتي للحملة التي تنطلق اليوم من الاجتماع الوطني للهيئة الوطنية لإحياء المئوية الثانية لميلاد المعلم بطرس البستاني لاعتماد الأول من أيار من كلّ عام يوماً عالمياً للغة العربية، تأكيداً على ربط عالمية لغتنا الجميلة بالمعاني العظيمة التي يختزنها إسهام المعلم بطرس البستاني في إغنائها وحمايتها، رمزاً للمقاومة الثقافية يستحق تحية بصفته أحد رواد نهضتنا المعاصرة والداعية الأول للعلمنة في بلادنا، ونصير المرأة الأول، والذي أجمع من جاؤوا من بعده على تسميته بأبي التنوير.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/03/06