جريمة نيوزيلاندا تقتضي تصالح الأديان
د. سعيد الشهابي
تكرر القول بان العنف ليس له دين أو عرق، وإنما هو تعبير عن توجهات شيطانية لدى من تضمر لديه النزعة الإيمانية والإنسانية، فلا تنطوي نظرته للآخر على معاني الاحترام أو الحب أو الأخوة. وحين تتغلب هذه النزعة يتضاءل موقع الدين في النفس، ويصبح المرء أسير نفسيته المريضة.
ومن المؤكد أن هناك دوافع لهذا التوجه، وفي مقدمتها الجهل المركب بالدين والإنسانية ومحاولة التمييز بين بني البشر، وهي تتأسس على التعصب وقصر النظر وانعدام البصيرة. فالأديان السماوية جميعها أنزلت من الله، ولذلك فهي تحظى باحترام عميق خصوصا في الدين الإسلامي. فلا فرق بين أن يستهدف «مسلم» متطرف كنيسة أو معبدا، أو أن يعتدي شخص «غير مسلم» على مسجد أو مركز إسلامي. فاستهداف أرواح البشر جرم لا تقره الأديان. وربما من أهم مصاديق «تسييس الدين» استخدامه عنوانا للأفعال الشائنة خصوصا تلك التي تؤدي إلى قتل البشر. وقد نص القرآن الكريم في سورة «البقرة» على اعتبار سفك الدم من الأمور التي اعترضت عليها الملائكة عندما خلق الله الإنسان: «قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟» ونظرا لفداحة استهداف النفس البشرية بالقتل فقد جعل الله عقوبتها قاسية، فشرع قتل القاتل حرصا على ردع النزعات الشيطانية بسفك الدماء. وتقتضي عالمية الإسلام احترام الجنس البشري وحماية النفس البشرية: «ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا».
ما حدث مؤخرا في نيوزيلاندا جريمة أعادت للأذهان مخاطر الوضع العالمي الذي أدى لانتشار ثقافة القتل والرعب وسفك الدماء والتطرف. فقد نفذ الاسترالي برينتون تارنت (28 عاما) اعتداءه المسلح على مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش، وحصد أرواح العشرات من المسلمين المتوجهين لأداء صلاة الجمعة امتثالا لأمر الله سبحانه: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع، ذلكم خير لكم». والصلاة مصداق للأمن والسلم والحب، إذا انطلقت من نفس صادقة في إيمانها. وصلاة الجمعة تعبير عن حراك مجتمعي واسع يهدف لتحقيق مقاصد نبيلة، فاللقاء يعني تقلص مساحات الاختلاف بين البشر والمصافحة تتضمن معاني الاحترام والتقدير والاعتراف المتبادل، والابتسامة المشفوعة بالدعاء تنطوي على الحب والتقارب. فهؤلاء الذين يتوجهون لأداء الصلاة صادقين في مسعاهم يضمرون الخير لأنفسهم ومجتمعاتهم، وينأون بأنفسهم عن الحقد والضغينة، فمن ينفتح على الله لا يخالج نفسه شعور شيطاني بل تمتلئ نفسه رحمة ورأفة وحبا للخير، فتلك انعكاسات الإله على مخلوقاته. لقد هزت تلك الجريمة المجتمع النيوزيلاندي الذي لم يعهد أعمال قتل جماعية على هذا النطاق. وقد هرعت رئيسة وزرائها فور سماعها الخبر للإدلاء بحديث إعلامي يؤكد حزنها لما جرى وتصميمها على مواجهة ظاهرة العنف. فهي تعلم أن مرتكبي الجريمة هذه المرة ربما ينتمون لايديولوجية مسيحية متطرفة، ولكنها تعلم كذلك أن التقصير في التعاطي مع هذه الجريمة ينال من معنويات المواطنين الذين سيشعرون بان حكومتهم قصرت في تعاطيها مع جريمة هي الكبرى في تاريخ نيوزيلاندا المعاصر. كان المصلون يتوافدون على المساجد، ولم يعلم أي منهم أنهم مستهدفون من جهة ذات نزعات شريرة. فسقط من هؤلاء المصلين من سقط، وجرح من جرح، وفر بنفسه من استطاع إلى ذلك سبيلا.
لا فرق بين أن يستهدف «مسلم» متطرف كنيسة أو معبدا، أو أن يعتدي شخص «غير مسلم» على مسجد أو مركز إسلامي. فاستهداف أرواح البشر جرم لا تقره الأديان
ماذا تعني جريمة قتل المصلين في نيوزيلاندا؟ وهل هي الأولى من نوعها أم الأخيرة؟ برغم أن هذا البلد الصغير النائي في أحد أطراف الأرض ليس لديه ثقافة الموت على نطاق واسع، وأن جهود زعمائه حققت توسعا اقتصاديا كبيرا، إلا أن أيدي العنف والتطرف لم تغفر له ذلك. فهناك نوع من البشر لا يؤمن بحكم القانون الإلهي عمليا، بل يسعى لتجميده أو إقصائه عن حياة البشر. هؤلاء ينطلقون من أسس شيطانية تحتضن القتل والدمار كإيديولوجية محورية لديها، فلا مرجعية دينية أو أخلاقية سوى ما تمليه المصالح المادية أو النزوات الشيطانية الغارقة في الدم والموت والكراهية. المشكلة أن هذه الظواهر لم تعد محصورة بالمجموعات الإيديولوجية المتطرفة ذات النزعة الدينية، بل توسعت في حلتها المعاصرة على مدى خمسين عاما، متزامنة مع تطور وسائل التواصل بين الشعوب، سواء بانتشار وسائط النقل كالطيران، أم الاتصالات الهاتفية أم التطور التكنولوجي والثورة الرقمية. ومنذ السبعينيات طرح سياسيون غربيون مقولات ذات نزعات تطرف واضحة، وجسد السياسي البريطاني المعروف، اينوك باول، نزعة التحسس المفرط من الآخر المهاجر.
وبرغم ما يفترض من تطور في التواصل الثقافي والحضاري من خلال العمل الدولي المشترك خصوصا الأمم المتحدة ومؤسساتها، فقد شهد العالم بروز ظواهر الإقصاء ورفض الآخر على نطاق أوسع. ففي السنوات الأخيرة حدثت تفاعلات متسلسلة ضمن ظاهرة التطرف، وطرح بعض الزعماء سياسات تعمق الأزمة ولا تحلها. ومن المؤكد أن سياسات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ساهمت في ذلك بشكل كبير. وكان من نتائجها صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وطرح ظاهرة اللاجئين كمبرر لبناء جدران الفصل بين الشعوب، بدلا من دراسة أسبابها والعمل لايجاد عالم متفاهم يتأسس على بناء الجسور والاعتراف والاحترام المتبادلين، ونشر الحرية كقيمة إنسانية تتضمنها العلاقات الدولية بشكل أساسي، وليس كشعار لدغدغة العواطف. أما حين يكون من نتائجها تعمق نزعة الانزواء عن الآخرين، كما فعلت بريطانيا مؤخرا بقرارها غير الحكيم بالخروج من الاتحاد الأوروبي، يصبح من الضرورة بمكان بذل الجهود لاحتواء الأزمة بحكمة وهدوء وموضوعية، والعودة للشعوب بعد تهدئتها وحمايتها من التأثر بالأفكار التي تبث روح الكراهية والفرقة بين البشر وتعمق مشاعر التمايز ومنطق الاستعلاء والشعور غير المبرر بالعظمة الوهمية. من المؤكد أن المجموعات المتطرفة المحسوبة على الإسلام ساهمت في بث خطاب الكراهية، ولكن ردود فعل الغرب ساهمت في تعميق تلك الظاهرة وربما ساهمت في صعود التطرف اليميني في الغرب.
في ضوء هذه الأوضاع المؤلمة أصبحت هناك ضرورة لقراءة المشهد الإيديولوجي والسياسي الذي يساهم في بث ثقافة التطرف والكراهية بعد أن أصبحت نتائجها كارثية. فاستهداف المصلين في المساجد ظاهرة مقلقة للجاليات المسلمة في اغلب بلدان المهجر. وقد هرع القائمون على المساجد لأعداد خطط لحمايتها من اعتداءات محتملة خصوصا أن بعضها استهدف سابقا وآخرها مسجد فينزبري بارك الذي قتل فيه شخص واحد وجرح آخرون في حزيران/يونيو 2017. ولا يقل خطرا عنها استهداف دور العبادة التابعة للأديان الأخرى. فقبل أقل من شهرين لقي عشرون شخصا مصرعهم في تفجيرين استهدفا كنيسة كاثوليكية بمدينة سولو الفلبينية. وقد أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن تلك المجزرة المروعة. وفي ابريل 2017 تم تفجير كنيستين قبطيتين في مدينتي طنطا والاسكندرية. وقتل في هذه المجزرة 45 شخصا. وأعلنت داعش مسؤوليتها عن الجريمة. وفي العام 2000 استهدف تنظيم القاعدة عددا من الكنائس في ثماني مدن اندونيسية، قتل فيها 18 شخصا. وفي عامي 2013 و 2014 تعرض مسيحيو العراق لحملة إرهابية واسعة استهدفت وجودهم في ارض الرافدين، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم لمغادرة مسقط رأسهم.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/03/18