نتألّم لحريق كنسية نوتردام ولكن لأسبابٍ أُخرى.. لماذا لم تتعاطفوا معنا بالقدرِ نفسه أو حتّى عُشر عندما تعرّضت كنائسنا ومساجدنا لأعمالٍ إرهابيّةٍ في فِلسطين المحتلة وغيرها؟
عبد الباري عطوان
زُرت كنيسة نوتردام في باريس أكثر من مرّةٍ وبهرتني بمِعمارها وبُرجها المُتميّز، وآخر زيارة كانت بصُحبة الشاعر الراحل الصديق محمود درويش الذي كان يحمل عشقًا خاصًّا لها، ويُفضّل الإقامة في فندقٍ صغيرٍ بالقُرب منها بين الحين والآخر، بعد أن رحل عن العاصمة الفرنسيّة عائِدًا إلى رام الله.
شعرت بحُزنٍ كبير، مِثل الملايين غيري، وأنا أرى النّيران تلتهمها، وبُرجها التاريخي الشّامخ يتهاوى، وما خفّف من هذا الحُزن تدفّق أكثر من مليار دولار من التبرّعات لترميمها وإعادتها إلى أبهى صُورها كمعلم أثري ديني يُشكّل أحد أبرز معالم العاصمة الفرنسيّة.
تألّمت أيضًا من جرّاء الهجمة التي تعرّض لها البعض الذي “خرج عن النّص”، وتساءل عن سِر هذا الاهتمام العربيّ والدوليّ بحرق الكنيسة الذي لم يثبُت حتّى الآن أنّه من فعل فاعل، أو نتيجة هجمة إرهابيّة يقف خلفها عرب أو مُسلمين، بينما لا تحظى حوادث مُماثلة تقع في أكثر من دولة عربيّة وإسلاميّة، حتّى لو كانت بفعلٍ إرهابيّ.
هذا البعض يُمارس حقّه في التّعبير أوّلًا، وينطلق في تساؤلاته من وقائع على الأرض ما زالت شاهدةً على هذا النّفاق، وهذه الازدواجيّة العالميّة، والغربيّة تحديدًا في النّظر إلى الأشياء، فلِما هذا الاستهداف، وكَيل الاتّهامات له “بعدم الحضاريّة”، وعلى أساس نظريّة أن خطأين لا يصنعان صوابًا.
***
في نيسان (إبريل) عام 2002، وهو الشّهر نفسه التي تعرّضت فيه كنيسة نوتردام للحريق، حاصرت الدبّابات الإسرائيليّة العديد من المُدن الفلسطينيّة في عمليّة عسكرية اسمها “الدرع الواقي” من ضمنها مدينة بيت لحم، وكنيسة المهد على وجه الخصوص لمُدّة 39 يومًا لأنّ مُقاتلين فِلسطينيين لجأوا إليها، واحتَموا بها، اعتقادًا منهم أنّ حُرمتها وقداستها الدينيّة ستردع الهمجيّة الدمويّة الإسرائيليّة.
جُثث الشّهداء مُتحلّلة مُلقاة إلى جِوار أقبية القديسين، أطفال ينامون في المكان الذي يُقال أنّ السيد المسيح ولِد فيه، مُسلّحون ينزِفون حتّى الموت في بهو الكنيسة، وما يُقدّر بحواليّ أربعين قسّيسًا وراهبًا وراهبةً كانوا داخل الكنيسة لجأوا إليها هربًا من رصاص وبطش قوّات الاحتلال التي كانت تُطلق النّار على كُل من يُحاول مُغادرتها.
نفذ الماء والطّعام، وتعفّنت الجُثث وجُروح الجرحى، وكانت دورات المياه محدودةً، ولانقطاع المياه تحوّلت إلى جحيمٍ لا يُطاق من شدّة الرائحة الكريهة، وسقط ثمانية أشخاص شُهداء، ولم يتم رفع الحِصار إلا بعد مُفاوضات طويلة مع دولة الاحتلال أشرف عليها وسطاء دوليّون، تمُ على إثرها إبعاد المُسلّحين عن الضفّة ونفيهم إلى قطاع غزّة ودول أوروبيّة مع حظر أبدي لعودتهم إلى ذويهم، ما ذكرناه آنفًا هو جُزء بسيط من شهادات المُحاصرين في الكنيسة الذين كانوا شُهودًا على المجزرة الإسرائيليّة، وانتِهاك حُرمات المُقدّسات في واحدةٍ من أطهر بِقاع الأرض.
لم نرَ أو نسمع ربع، أو حتى عُشر، هذا التّعاطف من قبل العالم الغربي مع كنيسة المهد، والقصف الذي تعرّضت له، وحِصار رُهبانها وراهباتها، وتدمير بعض أجزائها، وهي الكنيسة التي يعود تاريخها إلى أكثر من ألفيّ عام على الأقل، وتشرّفت بمولد السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، والسّبب أنّها تقع في فلسطين المحتلة، والقصف والحِصار كان من قِبل الإسرائيليين الذين يضعهم الغرب فوق كل القوانين ويُبارك كُل جرائهم حتى لو كانت المُقدّسات المسيحيّة قبل الإسلاميّة.
بدأنا بالحديث عن حصار وقصف وتجويع كنيسة المهد قبل الحديث عن الحرق المُتعمّد الإرهابي للمسجد الأقصى، أُولى القِبلتين وثالث الحرمين، لأننا أردنا أن نُقارن بين كنيسةٍ وأُخرى، ونكشف زيف الازدواجيّة الغربيّة، بل والعربيّة أيضًا في مِثل هذه المواقف.
***
عندما تعرّضت مجلة “تشارلي إبدو” الفرنسيّة السّاخرة لمجزرة، تدفّق العشرات من الزّعماء العرب والأُوروبيين إلى باريس للمُشاركة في تشييع القتلى، ووضع الجميع على صدورهم شعارات تقول “كلنا تشارلي إبدو”، أمّا عندما اقتحم مُسلّح استرالي مسجدًا في نيوزيلندا وقتل 50 شخصًا بدمٍ بارد، فلم نر رئيس فرنسا مانويل ماكرون يطير إلى مكان الحادث للتّعاطف مع أهالي الضّحايا، ناهِيك عن الزّعماء والمُلوك والأُمراء العرب.
اليمن البلد العربيّ الأصيل تتدمّر مبانيه الأثريّة الخالدة، ولا يذرِف أحد دمعة واحدة حُزنًا عليها، أو تعاطُفًا معها، ويجري نهب آثار العراق ومتاحفه في زمن الغزو الأمريكيّ الغربيّ الحضاريّ، ويُدير الجميع وجوههم إلى النّاحية الأخرى، ولا يُريدون أن يسمعوا أو يروا أيّ شيء بهذا الخُصوص، والشّيء نفسه يُقال عن كنائس ومساجد وآثار سورية، والقائمة تطول.
من حقّنا أن نغضب من هذا النّفاق الغربيّ العنصريّ البشِع، وأن نصرُخ وغيرنا من الألم، فنحن والله بشر، وأصحاب حضارة وتاريخ عريق أيضًا، ولكنّنا نعيش في زمن الهوان العربيّ والإسلاميّ، والاستكبار الغربيّ بكُل معانيه.
لا يُمكن أن ننسى، وسط هذا الغضب، أن نُوجّه التّهنئة لكُل أشقائنا النّصارى بمُناسبة أعياد الفِصح المجيد، وكُل عام وأنتم بألف خير.. ونكتَفي بهذا القَدر.
صحيفة الرأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/04/20