لا يجوز التفاوض مع العدو إلاّ عندما يجري على أساس شروطنا فقط
د. عصام نعمان
تحاول الولايات المتحدة، عبر مبعوثها ديفيد ساترفيلد، استجرار لبنان إلى مفاوضات مع «إسرائيل» حول الحدود البحرية المتنازع عليها. «إسرائيل» تشترط أن تجري المفاوضات بوساطة أمريكية فقط من دون تدخل الأمم المتحدة، وان تتناول مسألة الحدود البحرية من دون التطرّق إلى القضايا الخلافية الاخرى، حول الحدود البرية أو الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
خلافاً لموقف واشنطن وتل أبيب، يصرّ لبنان على أن تكون المفاوضات برعاية الامم المتحدة، وان تشمل نزاعات البرّ والبحر معاً. لا مانع لدى لبنان من حضور وسيط امريكي في المفاوضات وأن يكون له دور فاعل فيها، لكنه يصرّ على أن تجري برعاية الامم المتحدة، وفي إطار اتفاق الهدنة لعام 1948، كون لبنان ما زال، بحسب احكام القانون الدولي، في حال حربٍ مع «اسرائيل». تل ابيب يهمها، بطبيعة الحال، إجراء المفاوضات بوساطة أمريكية فاعلة، شريطة أن يقتصر دور الامم المتحدة على «استضافة» المتفاوضين في أحد مقراتها الحدودية بين الدولتين المتنازعتين.
لكن، ماذا عن مبدأ التفاوض مع «إسرائيل» الآن؟ هل يجوز اعتماده مبدئياً وعملياً، وعلى أيّ أساس؟
«إسرائيل» قلّما تفاوض أعداءها، إذا فعلت، نادراً، فإنها تفاوضهم على أساس شروطها، أيّ بما يمكّنها من إملاء إرادتها، لذلك تعمّدت تفشيل جميع المفاوضات معها، وكذلك محاولات العودة إلى التفاوض بمبادرةٍ من الامم المتحدة أو الولايات المتحدة بشخص رئيسها باراك اوباما، حتى عندما اقترنت مفاوضاتٌ معدودة باتفاقات، كمفاوضات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، فإن «اسرائيل» تعمّدت عدم تنفيذ أحكامها. كل ذلك لأن «اسرائيل» تتمشّى على عقيدة سياسية وعملانية مفادها عدم الانسحاب من أي ارض عربية تقع في إطار مخططها التوسعي «من الفرات إلى النيل»، يساعدها في ذلك اختلال موازين القوى لمصلحتها مع العرب مجتمعين.
هذا الاختلال ما عاد حادّاً كما في الماضي، إذ أن موازين القوى بين دولة العدو وبعض قوى المقاومة العربية أخذت تتغيّر باتجاه تحقيق شكلٍ من أشكال توازن الردع، أو القدرة على الإيذاء المتبادل. لنأخذ حال الصراع بين «إسرائيل» وحزب الله في لبنان، وبينها وبين «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وسائر فصائل المقاومة في قطاع غزة. «إسرائيل» اضطرت إلى الانسحاب عام 2000 بلا قيد ولا شرط، وبلا مفاوضات من كل الاراضي اللبنانية التي سبق أن احتلتها في حرب عام 1982 ما عدا منطقة شبعا وتلال كفرشوبا، بدعوى أنها تابعة لمنطقة الجولان السورية التي احتلتها في حرب عام 1967 وما زالت تحتفظ بقسمٍ منها.
إلى ذلك، عجزت «اسرائيل» عن احتلال مواقع استراتيجية داخل لبنان في حربها على المقاومة (حزب الله) عام 2006، فقد اكرهتها المقاومة على دفع ثمن باهظ لعدوانها في السلاح والعتاد والبشر والحجر، والقبول تالياً بوقفٍ لإطلاق النار بلا شروط، ما اعتبر آنذاك هزيمة مدوّية لها. ومنذ تلك الحرب، رضخت إلى توازنٍ رادع بينها وبين حزب الله.
في قطاع غزة تَحَقّقَ توازنٌ رادع مماثل بين «إسرائيل» وفصائل المقاومة. وإزاء فشلها في ثلاث حروب باختراق القطاع أو تطويعه، لجأت «إسرائيل» إلى محاصرته براً وبحراً بغية حمله، بلا طائل، على الاستسلام جوعاً ويأساً. إلى ذلك كله، تحقّق تغيّر وازن في وقائع الصراع بين «اسرائيل» من جهة، وكلٍّ من حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من جهة أخرى، ما شكّل انتصاراً لقوى المقاومة العربية في حوار، أو بالاحرى، صراع الإرادات مع العدو. فقد ثبت، سياسياً وميدانياً، أن قيادات المقاومة في لبنان وفلسطين تمتلك إرادات حرّة وصلبة وقادرة على اتخاذ قرار الحرب وتحمّل المسؤوليات الناجمة عنه، ومواجهة الضغوط الداخلية والخارجية التي تكتنفه، والمحافظة تالياً على الأرض والحقوق والمصالح القائمة والمتوافرة عند اندلاع الحرب. بتوازن القوى الرادع، وبالتفوق في صراع الإرادات، دشّنت قوى المقاومة العربية مرحلة جديدة مضيئة في الصراع مع العدو الصهيوأمريكي.
«إسرائيل» قلّما تفاوض أعداءها، إذا فعلت، نادراً، فإنها تفاوضهم على أساس شروطها، أيّ بما يمكّنها من إملاء إرادتها
اليوم تحاول «إسرائيل» انتهاز حاجة لبنان الماسّة إلى العائدات المرتقبة من استثمار احتياط النفط والغاز في قاع مياهه الاقليمية، بغية وقف تفاقم الدين العام (مئة مليار دولار أمريكي) ومعالجة الأزمة الاقتصادية الحادّة وذيولها من بطالة وفقر وفوضى. كيف؟ بدفع إدارة ترامب إلى الضغط على حكومة لبنان المأزومة، للموافقة على مفاوضتها برعاية امريكية وبمعزل عن الامم المتحدة.
تظنّ «إسرائيل « أن حاجة لبنان الماسة لعائدات النفط والغاز والقروض المالية من دول اوروبا وأمريكا، ستدفع قادته إلى التسليم بمفاوضتها على ترسيم الحدود البرية فقط، وإلى تجاوز موقف حزب الله الداعي إلى انسحابها بلا شروط من منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة، ومن مواقع أخرى على طول الخط الأزرق المحاذي للحدود الدولية مع فلسطين المحتلة. ولعل قادة «اسرائيل» يأملون، فوق ذلك، بأن يشتد الضغط داخل لبنان على حزب الله لتفادي الاصطدام عسكرياً بها، وربما أيضاً لحمله على صرف النظر عن التهديد بإقامة مصانع لإنتاج الصواريخ الدقيقة.
في الواقع، ليس حزب الله وحده مَن يتمسك بشروط مفاوضة «اسرائيل» على أساس الحقوق المتنازع عليها في البرّ والبحر معاً، وبوجوب انسحابها من منطقة شبعا وكفرشوبا المحتلة، وبضرورة التمسك بالمقاومة، ودعمها طالما أن حقوقاً ومناطق لبنانية ما زالت منتهكة أو محتلة، بل ثمة توافق وطني عام بضرورة التمسك بالحقوق والشروط آنفة الذكر، وكذلك بوجوب عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، أما بالنسبة إلى حزب الله، فإنه وحده قادر على اتخاذ القرار المناسب بشأن الاسلحة والصواريخ اللازمة لبقاء المقاومة قوة وطنية واقليمية مقتدرة لا تكفل ردع «اسرائيل» فحسب، بل تعزيز مركز لبنان السياسي أيضاً في أيّ مفاوضات مجدية معها لاحقاً.
رئيس حكومة العدو أقرّ بقوة حزب الله وصواريخه «القادرة على بلوغ عمق الاراضي الإسرائيلية بمدى دقة من 10 امتار» (خطاب نتنياهو في الجمعية العامة للامم المتحدة 2018/9/27). «وول ستريت جورنال» الأمريكية النافذة أكدت بتاريخ 8/12/2018 على «أن صواريخ حزب الله الدقيقة قادرة على اختراق الأهداف الإسرائيلية، وأن سلاحاً كهذا يمكن أن يسحق التفوق العسكري التكنولوجي لإسرائيل في المنطقة».
عندما يكون لبنان قادراً بفضل المقاومة على ردع «اسرائيل» وإحباط تفوقها العسكري التكنولوجي، فإنه ليس بحاجة لمفاوضتها من أجل مباشرة التنقيب عن النفط والغاز في مياهه الإقليمية. أما إذا كانت ثمة مصلحة له في مفاوضتها لتعجيل استخلاص حقوقه المنتهكة في البحر والبر، وتحقيق انسحابها من أراضيه المحتلة، فإن تفاوضه معها يجري، والحالة هذه، في ظل اقتدار مقاومته الحاسم، وعلى أساس شروطه وحده، وبما يمكّنه من فرض إرادته لتحرير أرضه واستعادة حقوقه المستلبة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/06/10