تأكيد جديد لظاهرة عربية متعاظمة
علي محمد فخرو
عندما تفجرت الحراكات الجماهيرية في بعض بلاد العرب منذ تسع سنوات، ثم انطفأ بعضها واختُطف البعض الآخر، انبرت أقلام الغمز واللمز والشماتة، بوصف كل ما حدث بنعوت هجائية مثل خريف أو شتاء العرب، أو مؤامرة هذه الجهة الخارجية أو تلك.
آنذاك نبه البعض منا إلى أن التاريخ يعلمنا أن المجتمعات، ككثير من المجتمعات العربية، المليئة بالفساد والظلم والاستبداد، لا يمكن إلا أن تنتهي إلى انفجارات جماهيرية مماثلة. وقلنا بأن ممارسي الفساد ونهب الثروات لن يكون لديهم الوعي السياسي الكافي، ولا الحساسية الضميرية الإنسانية، ليستوعبوا المعاني العميقة لما حدث في أجزاء من الوطن العربي، وليمارسوا شجاعة المساءلة والإصلاح، قبل أن يواجهوا انفجارات جماهيرية مماثلة في مجتمعات عربية أخرى.
وقد تحققت تلك النبوءة بعد حين قصير، فانفجرت الأوضاع في الجزائر والسودان، لتنتقل قبل بضعة أيام الظاهرة نفسها إلى لبنان. ولن يكون الحراك في لبنان هو الأخير، طالما أن الكثير من قوى الحكم لم تصل إلى القناعة بأن أساس السيادة في الدول الحديثة أصبح هو الشعب، وليس الفرد أو القبيلة، أو الحزب أو الجيش، أو الطائفة أو دعم ورضى الخارج. وأساس الحكم هو الشرعية التعاقدية المتمثلة في دستور ديمقراطي عادل، مفصل للأسس والقيم التي تقوم عليها الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومحترم ومطبق بصورة صادقة من قبل الجميع، وعلى الجميع، كمرجعية لا تعلو عليها أي مرجعية أخرى.
في لبنان، ومنذ استقلاله، تميزت الحياة السياسية بغياب شبه كامل لسيادة الشعب، وبهيمنة شبه كاملة لنظام عائلي إقطاعي طائفي، سواء في اكتساح الانتخابات، وبالتالي الاستيلاء على سلطة البرلمان، أو في أجهزة الحكم، حيث قام على المحاصصة بين الهويات الفرعية، من دون رقيب أو مساءلة. وقد رسخ الدستور والقوانين تلك الظاهرة، التي قادت إلى الفساد والنهب في الحياة الاقتصادية والمالية، وإلى ضعف الخدمات الاجتماعية للمواطنين. لكن أهم ما قادت إليه تلك الممارسات هو إقناع المواطن اللبناني بقبول المساهمة في الإبقاء على ذلك النظام العائلي الإقطاعي الطائفي، والاعتماد عليه، تصويتا في الانتخابات، وتفتيشا عن وظيفة، وسعيا لترقية في عمل.
الحراك في لبنان ليس الأخير، طالما أن الكثير من قوى الحكم لم تصل إلى القناعة بأن أساس السيادة في الدول الحديثة أصبح هو الشعب
ما يحير الإنسان هو صمود ذلك النظام الطائفي المشخصن، نظام ما قبل قيام الدولة الحديثة، عبر ثمانية عقود، في بلد طالما تفاخر أهله بانفتاحهم على الأنوار الأوروبية، وانتشار المدارس والجامعات العصرية، وبزخم فكري مبهر، لكن لصبر الشعوب حدود. ها أن الضنك المعيشي والفساد الاقتصادي والمالي، ومشاعر الغضب من وجود مظالم كثيرة، وشعور الطبقة المستنيرة بالغربة والضياع، فجّر اليوم في لبنان ثورتين: ثورة اجتماعية بمطالب معيشية وخدمية، وثورة ديمقراطية بمطالب سياسية ضد نظام الحكم وقادته. كان باستطاعة قوى السياسة أن تعي معاني انفجارات الربيع العربي، وإمكانيات عدوى انتقالها، فتبادر في الحال إلى اتخاذ خطوات وقائية تمنع الوصول إلى المشهد الذي نراه أمامنا، لكنها لم تفعل ذلك.
ذلك يقودنا إلى طرح السؤال التالي: إذ كانت قوى السياسة في لبنان لم تتعلم من دروس الربيع العربي، الذي شمل العديد من أقطار الوطن العربي، فماذا عن الحراك الجماهيري الذي يجوب شوارع مدن لبنان حاليا؟ هل يا ترى سيتعلم قادته من دروس وعبر نجاحات وفشل حراكات الربيع العربي عبر العشر سنوات الماضية؟ هل سيعون أن تاريخ الثورات مليء بالثورات التفاوضية من جهة، وبالثورات العبثية من جهة أخرى؟ هل ستكون لديهم قيادة تمثل غالبية الجموع المحتشدة، كجبهة أو كتلة متناغمة ومتفاهمة على أهداف مشتركة؟ ثم ماذا ستفعل تلك القيادة في حالة الفشل، وماذا ستفعل، وهذا هو الأهم، في حالة النجاح؟ لنتذكر أن المصير البائس لبعض حراكات الربيع العربي، كان سببه غياب مثل تلك القيادة، في شكل جبهة أو كتلة متفاهمة، ما أدى إلى تضحيات هائلة من دون نتائج ملموسة.
من حق لبنان الجميل المتدفق دوما بحيوية سياسية مبهرة أن تملك جهتاه المتقابلتان، قوى السياسية والسلطة من جهة، وقوى الحشود الجماهيرية الصاخبة من جهة أخرى، الوعي التاريخي المطلوب، الوعي بأن ما يجري في لبنان هو جزء وجودي مما جرى ويجري في الوطن العربي من حراكات جماهيرية كبرى، والوعي بأن نتائج وحلول ما يجري في لبنان ستكون لهما تأثيرات بالغة على ما ستأتي به الأيام في طول وعرض وطن العرب. التاريخ يعلمنا أن الثورات الوجودية العميقة تبدأ، لكنها لا تنتهي حتى تتحق أهدافها كاملة. صخب الملايين في شوارع مدن الوطن العربي، عبر العشر سنوات الماضية، يؤكد صحة تلك الظاهرة التاريخية ويعرضها بين الحين والآخر في مشاهد رائعة مبهرة.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2019/10/24