العقلانية والواقعية لا التهويل والحرب النفسية
ناصر قنديل
– الحراك الشعبي الذي لا يزال تعبيراً عن غضب الشعب اللبناني بشرائحه الواسعة من فشل وفساد أداء السلطات المتعاقبة، في المجلس النيابي والحكومة والمرافق المالية والقضاء، ليس صاحب نصوص قرآنية أو إنجيلية لا تقبل النقاش، خصوصاً أن الغضب أسوأ موجّه للسياسة، في بلد شديد الحساسيات السياسية، وبصورة أخصّ أن الشعارات والمواقف الوافدة على الحراك سواء عبر الإعلام أو عبر الجمعيات المنظمة التي تلقي شعاراً وتواكبه بحملة تسويق، ليست ثوابت لا يستطيع الحراك التحرّر منها. وها نحن أمام تحوّلين كبيرين في مسار الحراك لصالح إعادة نظر في عناوين طبعته منذ يومه الأول.
– اتهم كل مَن نادى بانسحاب الحراك من قطع الطرقات، وشرح حجم الأذى الذي يتسبّب به ذلك العناد المشاغب على الناس ومدى الضرر الذي يلحقه بالحراك نفسه، ويؤدي لانفضاض الشعب عنه وفقدانه صفة التمثيل الجمعي للوجدان اللبناني، بأنهم جماعة السلطة الفاسدة وحماة الفساد. وعندما تراجع الحراك عن قطع الطرقات لأنه بدأ يستشعر الضمور والتراجع وانفكاك الناس، حاول الراكبون على موجة الحراك لتحويله أداة أحقادهم هم وسياساتهم هم، وأغلبهم لا يميّزون بين الحراك الشعبي وحركة 14 آذار التي يمجّدونها وهم ينعون فشلها كل يوم، لأن قادتها لم يخلصوا لها، وسادتها في الخارج لم يثبتوا دفاعاً عن سقوفها المستحيلة. وبالطبع ينتقم هؤلاء الأربعتش آذاريون من انتصار المقاومة التي ناصبوها العداء بمحاولة جعل الحراك هزيمة لها، بينما تراجع الحراك عن قطع الطرقات تأكيد لصدق المقاومة مع الحراك، ولفرص تلاقي الحراك مع المقاومة.
– بالطريقة ذاتها تمّ دسّ شعار إسقاط الحكومة على الحراك، ومن خلفه تمّ دسّ شعار حكومة تكنوقراط، بمثل دسّ قطع الطرقات، ومثلما لقطع الطرقات حسابات أمنية لا تمتّ للحراك بصلة، لإسقاط الحكومة وحكومة التكنوقراط حسابات سياسية لا تمتّ للحراك بصلة، وتخدم أهداف أصحابها بقوة استعمال الحراك، وسهل استنتاج الآثار المدمّرة لاستقالة الحكومة على الحراك والبلد، بمجرد تخيّل الوضع لو لم تستقل الحكومة وبقيت تطبق ورقتها الإصلاحية، سواء لجهة العفو العام وقوانين مكافحة الفساد وقروض الإسكان، والسير بمؤتمر سيدر. فالأكيد أن الوضع المالي والنقدي كان أفضل، والطريق نحو إقرار قانون جديد للانتخابات وصولاً لحكومة من غير المرشحين تشرف على الانتخابات في الربع الأول من العام المقبل بسلاسة تمهيداً لانتخابات مبكرة تجري على أساسه في الصيف أو الخريف من العام المقبل. وخير دليل على مراجعة الحراك مضمون دعوته لاستقالة الحكومة القائمة على ركيزتين، كلن يعني كلن و حكومة تكنوقراط ، أن الحراك بغالبية مكوّناته وساحاته شهد مراجعة وتراجعاً عن شعار كلن يعني كلن بإيجاد مبررات واقعية وعقلانية لاستثناء رئيس الحكومة سعد الحريري من هذا الشعار ليس لتبرئته من المسؤولية، بل لمنع تصوير استبعاده إخلالاً بتوازن طائفي بين الرئاسات، ولضمان تحقيق المرتجى من مؤتمر سيدر حيث لوجوده دور أساسي، والدليل الثاني أن الحراك الذي رفع شعار حكومة تكنوقراط، نقض شعاره ومضمون الثقة العمياء بالتكنوقراط بخوض معركة مواجهة مع أبرز رموز التكنوقراط في لبنان وأكثر المشهود لهم بالخبرة، وأكثرهم ثقة في الخارج، وهو حاكم المصرف المركزي، وصولاً لرفع الحراك شعار يسقط حكم المصرف . وهذه كلها دلائل على أن شعارات الحراك ليست قرآناً ولا إنجيلاً، وعلى أن الحراك يعيد النظر بشعاراته بعقلانيّة وواقعيّة، ولا يحتاج للمبخّرين أو المخبرين وبينهما مجرد اختلاف ترتيب حروف.
– مخاطبة الحراك بالدعوة للعقلانيّة والواقعية لحكومة جديدة تشكل تلبية للحاجة المزدوجة لتكنوقراط ملتزم بالسياسات الوطنية والشعبية، ولا تشكل تحقيقاً لأجندات خارجية وداخلية بتحقيق مكاسب سياسية لا صلة لها بحقوق الناس ولا تخدمها، هي مخاطبة تشبه دعوة الحراك للانسحاب من قطع الطرقات، وقد لاقت تجاوباً، ومشابهة لما فعله الحراك بقبول بقاء الرئيس الحريري، وما فعله باستثناء منظومة التكنوقراط من القدسية والتأليه، ما يسهّل فرص تصحيح خطأ استقالة الحكومة، التي لم تخدم الحراك ولا البلد ولا الناس، ويفتح الطريق لحكومة تلتزم برنامجاً إصلاحياً يوسّع مضمون الورقة الإصلاحية وصولاً لقانون انتخابات جديد، على اساس الدائرة الواحدة والنسبية، لكنها حكومة لا تخلّ بالتوازنات التي جاءت بها الانتخابات النيابية، ضماناً لاحترام نتائج الانتخابات المقبلة التي يطالب الحراك أن تكون مبكرة، ولا مصلحة له بتسجيل سابقة عدم احترام تمثيل الحكومات لنتائج الانتخابات.
– ما يجري الآن هو لحس مبرد يستثمر عليه داخل وخارج يسرعان بلبنان نحو الانهيار، بالاستقواء بكذبة عنوانها، أن الحراك لن يقبل إلا بنسف المعادلات السياسية التي ثبتتها الانتخابات، ليمتطي بعض الداخل والخارج هذا النسف للقبض على لبنان، بحكومة يسمّيها هذا الداخل والخارج ويستثني فيها من يريد من معادلة كلن ، ويصيب بها من يريد، هي حرب نفسية قاسية تُخاض في أروقة المصارف وعلى شاشات التلفزة، ولا يهمّ أصحابَها أن يفقد اللبنانيون فيها ودائعهم، ومصادر رزقهم، وتسقط ليرتهم بالضربة القاضية، في ظل هتاف، ثورة ثورة ثورة.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2019/11/09