التّهديدات الأمريكيّة بالعُقوبات على مِصر لشِرائها طائرات “سوخوي 35” الروسيّة مُهينة ومَرفوضة..
عبد الباري عطوان
يبدو أنّ العلاقات المِصريّة الأمريكيّة مُقبلةٌ على مرحلةٍ جديدةٍ من التوتّر في الأشهُر المُقبلة، بعد قرار السّلطات المِصريّة المُضي قُدمًا في صفقة شِراء طائرات روسيّة من طِراز “سوخوي 35” تصِل قيمتها إلى أكثر من مِلياريّ دولار.
آر كلارك كوكر، مُساعد وزير الخارجيّة الأمريكيّ للشّؤون السياسيّة والعسكريّة، أكّد في لقاءٍ مع الصّحافيين أثناء حُضوره معرض دبي للطّيران “أنّ بلاده قد تفرض عُقوبات على مِصر وتحرمها مِن مَبيعاتٍ عسكريّة في المُستقبل إذا مضَت قُدمًا في شِراء الطّائرات الروسيّة وأنّ القاهرة على درايةٍ بهذه المُخاطرة”.
هذا التّهديد الأمريكيّ ينطَوي على الكثير من الابتِزاز والاستِفزاز في الوقتِ نفسه، ويتعاطى مع مِصر الدّولة الرّائدة في المِنطقة كما لو أنّها جمهوريّة مَوز إن لم يَكُن اقل، وهذا تَقديرٌ خاطِئٌ بكُل ما تَعنيه هذه الكلمة من معنى، ويعكِس جَهلًا بالتّاريخ.
من حق مِصر الشرعي، أن تشتري السّلاح الذي يُعزّز قُدراتها الدفاعيّة والهُجوميّة من أيّ دولة تقبل بيعها طائِرات وأسلحة مُتقدّمة تحفظ لها أمنها القومي، وتُمكّنها من مُواجهة الأخطار التي تُهدّدها وعلى رأسها تخفيض حصّتها من مِياه النّيل بسبب مَشروع سد النّهضة الإثيوبي، وهي الأخطار التي قد تَستهدِف تجويع ملايين الفلّاحين المِصريين، وتقليص كميّات الكهرباء التي يُنتِجها السّد العالي.
***
القِيادة المِصريّة تقدّمت إلى الولايات المتحدة بطلبٍ لشِراء طائرات “إف 35” (الشّبح) بعد حُصول دولة الاحتِلال الإسرائيلي على حواليّ 20 طائرة مِنها من أجل تحقيق التّوازن العسكريّ، ولكنّ وزارة الدّفاع الأمريكيّة (البنتاغون) رفَضت هذا الطّلب حِفاظًا على التفوّق العسكريّ الاستراتيجيّ الإسرائيليّ، الأمر الذي دفَع هذه القِيادة للذِّهاب إلى موسكو لشِراء الطّائرة الروسيّة البَديلة “سوخوي 35” التي تُعتَبر أكثر تَقدُّمًا، كما اشتَرت طائرات “رافال” الفِرنسيّة لتعزيز سِلاحها الجويّ، ولم تُواجَه بأيّ عقَبات أو شُروط بل التّرحيب الكامِل.
العلاقات العسكريّة الروسيّة المِصريّة تتطوّر بشَكلٍ لافتٍ قد تصِل إلى عهدها الذهبي أثناء حُكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في المُستقبل المَنظور، فقبل وبعد زيارة سيرغي شويغو، وزير الدّفاع الروسي لمِصر الأسبوع الماضي جرى الاتُفاق على توقيع عدّة صفَقات عسكريّة، من بينها صفقة صواريخ كورنت المُضادّة للدّروع، ودبّابات “تي 90” ومَنظومة صواريخ “إس 300″، ومروحيّات نقل عسكريّة، عَلاوةً على طائِرات “ميغ 29″، وكذلك إقامة محطّة نوويّة لتوليد الطّاقة في مِنطقة الضبعة، واجراء مُناورات عسكريّة مُشتَركة، والسّماح للطّائرات الحربيّة الروسيّة باستِخدام مجال مِصر الجويّ وقواعِدها العسكريّة.
من حَق مِصر كدولة مُستقلّة ذات سِيادة أن تُنَوّع مصادر تسليحها، خاصّةً في مُواجهة إسرائيل التي ما زالت تُشكِّل تهديدًا مُباشرًا أو غير مُباشر لأمنِها القوميّ، فإسرائيل هي التي تقِف خلف مشروع سَد النّهضة الإثيوبي، وهي التي نَصَبَت صواريخ مُضادّة للطّائرات حوله لحِمايته، ووفّرت رؤوس الأموال اللّازمة لبِنائه.
بعد فشل صواريخ “الباتريوت” الأمريكيّة في التصدّي للصّواريخ الباليستيّة اليمنيّة المُصنّعة بمُساعدة التّكنولوجيا الإيرانيّة المُتقدّمة، أثناء الهجَمات الثّلاث على السعوديّة في أقل من عام (مُنشآت أرامكو غرب الرّياض، وفي حقل الشّيبة، أخيرًا في بقيق وخريس) باتَ لِزامًا على مِصر ودُوَل أُخرى البحث عن مصادر التّسليح الأحدَث، أُسوَةً بدُولٍ أُخرى مِثل تركيا التي اشتَرت منظومة صواريخ “إس 400” الروسيّة، وتتفاوض حاليًّا لشِراء طائِرات “سوخوي 25” التي تُعتَبر الأكثَر كفاءةً، حسب تقديرات الخُبراء الغربيين، وتتقدّم في تجهيزاتها العسكريّة والتكنولوجيّة على نَظيرتها الأمريكيّة “إف 35”.
مصر لا تستطيع الاعتماد على طائرات “إف 16” الأمريكيّة العَجوز والهَرِمَة، في وَقتٍ تمتلك إسرائيل طائرات “إف 35” المُتطوّرة، حتى لو أدّى ذلك إلى قطع المُساعدات الأمريكيّة التي تَصِل إلى مِلياريّ دولار يذهَب مُعظَمها (1.3 مِليار) لشراء أسلحة وعتاد حربيّ، وهي على أيّ حال مُساعدات تتواضَع أمام نَظيرتها الإسرائيليّة التي تَصِل إلى خمسة مِليارات دولار سَنويًّا.
أمريكا لا تحترِم حُلفاءها، وتتعاطى مَعهُم بطريقةٍ استعلائيّة استفزازيّة عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، ولعلّ تجربة تركيا، العُضو في حِلف “النّاتو” مع أمريكا هي أكبر دليل في هذا الصّدد، فعندما أقدم الرئيس رجب طيّب أردوغان على اللّجوء إلى موسكو لشِراء صواريخ “إس 400” هدّده ترامب بتدمير الاقتِصاد التركيّ، وفرض عُقوبات على تركيا، وإلغائها من برنامج إنتاج طائرات “إف 35” المُتطوّرة، وذكَرت تسريبات صحافيّة أمريكيّة أنّ الرئيس ترامب وضع الرئيس أردوغان أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن الأسبوع الماضي أمام عدّة خِيارات إذا كان يُريد الحِفاظ على صداقة أمريكا فيما يتعلّق بشِراء هذه المنظومة من الصّواريخ: إمّا تدميرها أو تفكيكها، أو إعادتها إلى روسيا، وأعطاه مُهلةً قصيرةً لاتّخاذ القرار ولا نعرِف كيف سيَكون الرّد، ولكنّ احتِمال الرّفض أكبر.
***
مِصر تستطيع التصدّي لهذا الابتِزاز الأمريكيّ بقُوّةٍ، لأنّها لا تستفيد من هذه المُساعدات الأمريكيّة إلا في الحُدود الدّنيا، خاصّةً إذا كانت المُساعدات العسكريّة منها مَحصورةً في شِراء الطّائرات الحربيّة الخُردة التي انتهى عُمرها الافتراضيّ، مِثل طائرات “إف 16” المَنزوعة التّكنولوجيا المُهمّة أساسًا ولا يُمكِن استِخدامها ضِد إسرائيل بالفاعليّة المَأمولة.
الرّد القويّ على هذا الابتِزاز يجب أن يكون في المُضِي قُدمًا في شِراء طائرات “سوخوي 35″، وفوقها منظومات صواريخ “إس 400” المُتطوّرة، وكُل ما تيسّر من دبّابات ومروحيّات حديثة، ولا نَستغرِب أن يأتي هذا الرّد سَريعًا، ونتمنّى أن يتكرّر سِيناريو عام 1960 عندما أدار الرئيس الرّاحل جمال عبد الناصر ظهره لأمريكا، واشتَرى صفقة الأسلحة التشيكيّة، واستَعان بالخُبرات الروسيّة لبِناء السّد العالي.
هل يُعيد التّاريخ نفسه؟ وهل يعود الزّمن الجميل، زمن الكرامة وعزّة النّفس والرّيادة المِصريّة؟
مِصر ولّادة.. ولن تَرضَخ للهوان والاستِكبار الأمريكيين، إن آجِلًا أو عاجِلًا، أو هكذا نأمل، وانتهاء زمن البَقرات العِجاف باتَ وَشيكًا.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم
أضيف بتاريخ :2019/11/20