أمريكا وإيران: المواجهة المؤجلة
د.سعيد الشهابي
أزمات المنطقة لن تنتهي في المستقبل المنظور لأسباب عديدة: اولها الوجود العسكري الاجنبي متمثلا بالقواعد الكثيرة والانفاق الهائل على اقتناء السلاح، ثانيها: الأطماع الدولية في ثرواتها خصوصا النفط الذي يعتبر عصب الحياة الاقتصادية في العالم الصناعي. ثالثها: وجود الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وغياب الارادة الدولية لحماية الشعب الفلسطيني وكبح جماح الاحتلال. رابعا: غياب الحريات العامة التي توفر للشعوب انظمة حكم تمثلها، الأمر الذي حال دون قيام منظومة سياسية عربية او اسلامية رادعة للأجانب.
في ظل هذه الحقائق يمكن القول إن الأزمات سوف تستمر، خصوصا مع وجود استقطاب سياسي غير مسبوق. اما الاختلافات الاخرى، برغم المبالغة في عرضها، كالانتماء الديني او المذهبي او الايديولوجي، فهي اسباب تظهر تارة وتتلاشى اخرى، وفقا لرغبات القوى السياسية المتصارعة او المتنافسة.
يمكن القول إن اولى تبعات اغتيال الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، والقائد العراقي ابو مهدي المهندس وثمانية آخرين كانوا برفقتهما عندما حدث العدوان الأمريكي، بروز شعار «اخراج القوات الأمريكية من غرب آسيا». هذا الشعار رفعه الإيرانيون، ورددته مجموعات مسلحة عديدة ويتوقع ان يفرض نفسه ويزيد الأوضاع تعقيدا. وبرغم رغبة بعض حكام المنطقة في بقاء هذه القوات والقواعد لأسبابها الخاصة، فان سبعين عاما من التاريخ المعاصر يؤكد أن هذا الوجود لم يساهم في أمن المنطقة واستقرارها، بل انه ساهم في بقاء الأزمات واستفحالها. قبل خمسين عاما كان هناك تفاؤل بان يؤدي انسحاب القوات البريطانية من كافة المناطق شرق السويس لقدر من الاستقرار وقيام منظومات سياسية تتيح للشعوب ممارسة دورها الطبيعي في الحكم والتشريع والقرارات المفصلية. ولكن التركة البريطانية لم تؤد لذلك، بل ربطت القوى الغربية مصالحها باستمرار التواجد العسكري من جهة وحماية «اسرائيل» من جهة اخرى. وحتى بريطانيا التي خرجت في العام 1971 عادت مؤخرا وفق قرارات استراتيجية اتخذتها المؤسسة البريطانية وبدأ تنفيذها قبل ستة اعوام ببناء قاعدة بحرية في البحرين. اما السجال حول بقاء القوات الأمريكية في المنطقة او خروجها فقد كان قائما منذ سنوات. هذا التواجد تضاعف بعد الاجتياح العراقي للكويت في آب/اغسطس 1990، الذي كان من اهم نتائجه امران: مجيء القوات الأمريكية الى المنطقة بدعوى اخراج تلك القوات، تلاها اسقاط نظام صدام حسين قبل سبعة عشر عاما. هذه المآلات لا يمكن استبعادها من اي تحليل لما يجري في الساحة هذه الايام.
الامر المؤكد ان العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية تراجعت كثيرا بعد قيام الجمهورية الاسلامية قبل اربعين عاما. واصبح هناك قطبان اساسيان يتنافسان على النفوذ في المنطقة. ورأت أمريكا في ذلك امرا مرفوضا، فسعت لتثبيت وجودها بعد حرب الكويت قبل ثلاثة عقود تقريبا. وكان من تبعات الوجود الأمريكي المباشر قيام التنظيمات المسلحة ابتداء بتنظيم القاعدة الذي استهدف الأمريكيين بشكل اساسي. وبقيت المنطقة على كف عفريت فيما كانت الحروب بالوكالة تتواصل بدون توقف. أمريكا رأت في توسع النفوذ الإيراني الاقليمي تحديا مباشرا ليس لوجودها فحسب بل للاحتلال الاسرائيلي نفسه.
تغير اللهجة الأمريكية على لسان ترامب أمر مثير للدهشة والاستغراب. فمع أنها المرة الأولى التي تستهدف فيها قواعد أمريكية بوضوح ولهجة متحدية، إلا أن واشنطن لم ترد على تلك الهجمات الصاروخية
هذا الوجود سيبقى مصدر اضطراب متواصل، وسببا للحروب بدون توقف. وادى صعود دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية الى ظهور سياسات أمريكية جديدة ساهمت قوى الضغط الصهيونية في تأطيرها، ووضعت في محورها استهداف المجموعات التي تطلق على نفسها «المقاومة» التي تأسست وفق تصور واضح بان المنطقة لن تهدأ او تستقر طالما بقي الشعب الفلسطيني مشردا عن ارضه ومحروما من حقوقه الطبيعية. الأمريكيون رأوا في شخص قاسم سليماني عنصرا محوريا في سياسات إيران الاقليمية. فقد كان شخصية ديناميكية لا تتوقف عن الحركة، ينتقل من دمشق الى بيروت وبغداد ويساهم في صياغة تطورات اوضاعها بشكل مباشر.
ما معنى ذلك؟ ثمة أمور عديدة ذات صلة بهذه التطورات منها ما يلي: اولها ان استهداف الولايات المتحدة مسؤولين إيرانيين وعراقيين ستكون له تبعات خطيرة على المصالح الأمريكية في المنطقة. ثانيها: بالإضافة لإيران، اصبح في حكم المؤكد انها خسرت العراق ايضا، سواء بانتهاكاتها المتكررة سيادته ام بدعم معارضيه ام استهداف قادته. واذا تحقق ذلك، فستكون تكون الخسارة فشلا استراتيجيا كبيرا نظرا لحجم العراق الجغرافي والاقتصادي والبشري. ثالثا: ان من يريد ان يكون له دور فاعل في منطقة الخليج فليس من مصلحته استعداء إيران التي تملك نصف شواطئ الخليج، الى مستوى المواجهة العسكرية.
بمعنى ان أمريكا او بريطانيا لا تستطيعان الاحتفاظ بقوات عسكرية في المنطقة اذا كانت هناك حالة حرب مع إيران لأن هذه القوات لن تكون بمأمن ولن يكون لوجودها أثر فاعل. التنافس بين هذه القوى جميعا مفهوم، وكذلك الخلافات السياسية، ولكن ليس المواجهات العسكرية. رابعا: لهذا السبب فليس متوقعا بقاء القوات الأمريكية في المنطقة طويلا، لأن ذلك يعني حرب استنزاف متواصلة لن تكون لصالح أي من الطرفين وخصوصا أمريكا. خامسا: ان قرار اغتيال سليماني والمهندس قد يكون تعبيرا عن قوة عسكرية ضاربة، ولكنه ايضا مؤشر لمشاعر احباط سياسي لدى الأمريكيين لعدم تمكنهم من حسم اية معركة حقيقية اقليمية لصالح المشروع الأمريكي ـ الاسرائيلي. يصدق ذلك على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وكذلك افغانستان. سادسا: ان النهج الأمريكي القائم على اساس الصدمة لا يحقق نتائج عملية على المستوى البعيد. هذه السياسة قد تؤدي لإدخال الرعب في النفوس، ولكنها لا تحسم المعركة ولا تحقق نتائج سياسية ملموسة. ولذلك لم تؤد العمليات الأمريكية المتكررة في المنطقة لحسم أي خلاف ولم تحفظ مصالح أمريكا ونفوذها السياسي. سابعا: ان القوى الاقليمية التي شجعت الأمريكيين على شن حرب ضد إيران لم تحقق شيئا من ذلك، فالحرب لم تحدث، وإيران لم تدمر، وموقعها كقوة اقليمية كبرى لم يتأثر كثيرا. صحيح أن التهديدات الإيرانية بالانتقام لمقتل سليماني لم تتبلور بشكل مؤثر، بل انحصرت حتى الآن على استهداف قاعدتين عسكريتين في العراق، بدون خسائر بشرية ولكن ذلك لا يعني غلق ملف الاغتيال تماما. هل هذا يعني خواء اتلك التهديدات؟ ام عدم توفر القدرة لتنفيذها؟ ام ان هناك حسابات سياسية وعسكرية غير معلنة؟ لقد كرر القادة العسكريون الإيرانيون عزمهم على الثأر ولكن ليس معلوما مدى قدرة إيران على تنفيذ ذلك ضمن المعطيات العسكرية واللوجستية القائمة. ثامنا: ان تغير اللهجة الأمريكية على لسان ترامب امر مثير للدهشة والاستغراب. فمع أنها المرة الأولى التي تستهدف فيها قواعد أمريكية بوضوح ولهجة متحدية، إلا أن واشنطن لم ترد على تلك الهجمات الصاروخية. فهل إن ذلك لاعتبارات سياسية ام خشية من نشوب حرب حقيقية تؤثر سلبا على حظوظ ترامب الانتخابية؟ ثامنا: ان من المتوقع استمرار سياسة «توازن الرعب» في الشرق الأوسط بين الاطراف المعنية خصوصا أمريكا وحلفاءها من جهة وإيران ومن تسميه «محور المقاومة» من جهة اخرى. وسوف يستمر هذا الاحتقان زمنا بسبب عمق المشاعر لدى الطرفين. تاسعا: إن الأزمة كشفت تباينا في المواقف بين الأطراف الأمريكية العديدة، فلم يكن هناك صوت واحد ينطلق باسمهم جميعا بل كانت هناك مواقف متباينة مع مواقف الرئيس حتى من داخل ادارته. فما ان اعلن عن استهداف التراث الثقافي الإيراني، حتى تصاعدت الاصوات ضد تلك السياسة، واضطر البنتاغون لإصدار تصريح بان وزارة الدفاع الأمريكية «ملتزمة بالقانون الدولي وانها لن تستهدف أهدافا ثقافية». إن ذلك مؤشر للتوازن القلق بين السلطات الأمريكية والخشية من إقدام ترامب على ما لا طاقة لأمريكا به. يضاف الى ذلك أن شبح الحرب مع إيران أعاد ذكريات فيتنام، فخرجت التظاهرات في عشرات المدن الأمريكية ضد الحرب، وأعلن الكونغرس عزمه على اصدار قرار ضد ذلك.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/01/13