أبدا هو المشهد الجنائزي نفسه
علي محمد فخرو
أبدا هو المشهد الجنائزي نفسه، تتماثل مكوناته الكبرى، ويبقى لاعبوه الأساسيون، مع اختلافات هامشية في بعض التفاصيل. هذا هو مشهد الكوميديا المضحكة المبكية في القطر العربي الليبي المنكوب.
أبطاله هم خليط عجيب متنافر، مكون من الذين باركوا منذ بضع سنوات التدخلات الأجنبية، بقيادة ماكنة حلف الناتو التدميرية الهائلة، لإسقاط نظام الحكم السابق أولا، ثم تهيئة المجتمع الليبي لمرحلة التفتيت ونهب ثرواته النفطية ثانيا. لكن الأطماع والتوازنات الدولية، وبلادات الدول المحيطة بالجثة الليبية، أضافت مكونات إقليمية ودولية جديدة، جعلت عدد أبطال هذا المشهد العربي الحزين يزداد يوميا، لكأن الجميع يريد لليبيا أن تنتقل رويدا لتماثل المشهد العربي السوري بكل تفاصيله ومآسيه وحقارات لاعبيه، وتمزيق عروبته، وتهجير مواطنيه، وإخراجه من الملعب القومي العروبي المقاوم للصهيونية والاستعمار.
في البدء كان الأبطال أمريكيين وأوروبيين غربيين وبعضا من العرب، واليوم دخل أبطال جدد أوروبيون شرقيون وإسلاميون شرق أوسطيون وبعض من بقايا العرب التابعين. تمر السنون، وتسيل الدماء، ويتيتم الأطفال، وتزداد أعداد الأرامل، وتتدمر البنية المجتمعية العربية تلو البنية، ويقهقه الكيان الصهيوني ومجانين واشنطن ويشمت كل عدو، لكن المشهد المسرحي الممل، المضحك المبكي البليد، يعرض نفسه سنة بعد سنة، بينما رؤساء العرب وحكومات العرب، ومجتمعات العرب وأحزاب العرب، وكنائس ومساجد وحسينيات العرب، ومنظمات العرب الإقليمية المشتركة، وجيوش العرب، تتفرج ببلاهة وقلة حيلة، وأحيانا بتآمر مبطن.
كل الدول العربية والجامعة العربية ومنظمة التضامن الإسلامي لا تنبس بكلمة احتجاج واحدة على إبعادها، عن كل الاجتماعات والمناقشات والمبادرات الخارجية
الآن تجري محاولة إنعاش الجثة الليبية في موسكو، منطلقة من أحلام قيصرية وعثمانية، وبحضور غير مرئي لأطماع أمريكية وأوروبية، بينما تكتفي دول الجوار، كل دول الجوار العربية، والجامعة العربية ومنظمة التضامن الإسلامي، وغيرها، ومن يدعون انتماء للعروبة والإسلام، يكتفون بالتفرج المخزي، من دون أن ينبسوا بكلمة احتجاج واحدة على إبعادهم، بتجاهل واحتقار، عن كل الاجتماعات والمناقشات والمبادرات الخارجية. نسأل: هل أن كل تلك الجهات العربية المتفرجة الناعسة، تسمع وتعي معنى الهمسات الشعبية المتصاعدة، بشأن خذلان شعوب الأقطار العربية المنكوبة وبشأن، بالتالي، كفرهم بروابط العروبة والإسلام وهويتهم القومية والإسلامية والمسيحية؟ يشك الإنسان في أن تلك الجهات العربية تدرك أو تعي عظم المآسي الفكرية والشعورية والانتمائية، التي تتجمع شيئا فشيئا لتنفجر في وجوه الجميع في المستقبل غير البعيد. عند ذاك لن ينفع بكاء من رفعوا ألوية التضامن والتوحد العربي، وشعارات الأمة الواحدة، ولا بكاء المفجوعين من قادة الحكم العربي، عندما يواجهون مصير حكام الدويلات الأندلسية الذين نأوا بأنفسهم عن بعضهم بعضا، لينجوا بأنفسهم وبالنتف التي كانوا يحكمونها، ليواجهوا بعد حين مآلات السقوط والذل وفقدان كل شيء «وليبكوا كالنساء ملكا لم يحافظوا عليه كالرجال».
لنسأل مرة أخرى، وللمرة الألف، هل حقا أن حشود الملايين الشعبية العربية، بقيادة شباب وشابات، أمل هذه الأمة، وصل بهم وعيهم السياسي والوطني والقومي إلى الاكتفاء بالنضال والموت من أجل الخبز والمسكن وخدمات اجتماعية هنا أو هناك، بينما يتجاهلون حاجة أمتهم العربية ووطنهم العربي الكبير، وبالتالي كل قطر عربي، للسلام والاستقرار والحياة الكريمة واللحاق بحضارة العصر ومنجزاته المادية والمعنوية الكثيرة؟ هل حقا أنهم لا يسمعون قهقهات الأعداء الصهاينة والإستعماريين، ولا يعون أخطار مغامرات الإرهابيين المجانين في الداخل، ولا يقتنعون بأن سقوط كل قطر عربي سيعني خطوة أخرى نحو سقوط الأمة بكاملها؟
أملنا كبير، ولن نيأس، لكن عدد الأعداء يزداد ومؤامراتهم تزداد تعقيدا وشيطنة، وهم يسهرون الليالي لإتمام مهمة تاريخية: جعل العرب أمة ضعيفة ممزقة هامشية، تماما كما فعلوا بغيرهم في شتى بقاع الدنيا، عندما قبلت زعامات الأخيرين مبادلة الأرض والعرض بعقود من الزجاج الملون الرخيص.
نعم، التاريخ قادر على إعادة نفسه
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/01/16