أمن الخليج: من نيكسون إلى بوتين
د. سعيد الشهابي
الدعوة التي وجهها وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، الاسبوع الماضي الى دول الخليج حول أمن المنطقة لم تكن الاولى من نوعها، لكنها تمثل نقلة نوعية في التفكير الاستراتيجي الروسي. فمنذ اكتشاف النفط قبل مائة عام تقريبا اصبح امن منطقة الخليج على وجه الخصوص موضع نقاش متواصل لم يتوقف خصوصا مع اندلاع الأزمات على ضفافه وفي مياهه. كما تأسست السياسة الأمريكية على «منع الاتحاد السوفياتي من الوصول الى مياه الخليج الدافئة». الأمر الواضح أن هناك دوافع متباينة لمن يتحدث عن أمن الخليج او الخطط الأمنية لضمانه. فشعوب المنطقة تبحث عن أمنها اولا، وتجنيبها خطر الصراعات التي دفعت ثمنها باهظا، وحكوماتها تنطلق من الرغبة في الحفاظ على الأوضاع الراهنة ومنع أي تغيير في النظم السياسية. اما الدول الغربية فدافعها ينطلق من خشيتها على تدفق النفط ووصوله الى المستهلكين الغربيين. كما أن مكونات هذا الأمن والأطراف المسموح لها بالاشتراك فيه تختلف مع تغير الظروف. فقد كانت إيران في عهد الشاه طرفا مطلوبا من الولايات المتحدة للمشاركة الفاعلة لضمان ذلك الأمن. يومها كانت الاستراتيجية الأمريكية قائمة على اساس ما سمي «العمودين المتوازيين» وهما إيران والسعودية اللتان تم تسليحهما بدون حدود حتى سقوط نظام الشاه في 1979. بعد ذلك دفع الأمريكيون باتجاه تأسيس مجلس التعاون الخليجي ليكون نواة لمنظومة أمنية فاعلة فيما كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية يشتعل أوارها طوال ثماني سنوات. ولكن المشهد تغير تماما بعد حرب الكويت في 1991 ومجيء القوات الأمريكية الى المنطقة لتخوض اكبر حرب الكترونية حديثة. تلك الحرب اعادت الأمريكيين الى المضمار العسكري بقوة بعد انكفائهم بعد تجربتهم المرة في فيتنام.
الدعوة الروسية لمنظومة أمنية خليجية لها منطلقاتها وأهدافها. فقد اصبح الوجود الروسي في المنطقة في السنوات الاخيرة عاملا في تغير موازين القوى الاقليمية والدولية. وثمة خشية من يكون هذا الوجود سببا لصدام عسكري يؤدي لحرب نووية، خصوصا مع التغير الخطير في المزاج الأمريكي تحت تأثير صعود اليمين المتطرف متمثلا بالرئيس الحالي. وفي العقد الاخير توسع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط نتيجة عوامل من بينها تصاعد حالة الاستقطاب الايديولوجي والسياسي وتغول النفوذ الإسرائيلي على حساب علاقات أمريكا ببعض حلفائها التقليديين خصوصا تركيا. بدأ الروس باختراق المنطقة بحضورهم الفاعل في سوريا وتمتين علاقاتهم مع إيران وتركيا والعراق. في مقابل ذلك فان سياسات ترامب التي تبدو مؤثرة وفاعلة احيانا، كشفت ضعفها الحقيقي وخطأ حساباتها وتوقعاتها. ومن المؤكد أن انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران كان عاملا اساسيا في هذه التغيرات التي سهلت عودة الروس لممارسة الدور الذي فقدوه بعد انتهاء الحرب الباردة وانحسار المد الشيوعي. وتأتي الدعوة الروسية لإنشاء تحالف إقليمي أمني في الخليج نتيجة تغير موازين القوى لصالحها، وأن أي تحالف أمني سيساهم في اضعاف النفوذ الأمريكي ويفتح المجال لدور روسي اوسع. ولكن هذه الدعوة ليست مضمونة النتائج. فالسعودية والامارات تفكران بعيدا عن أمن الخليج، وتسعيان لتوسيع نفوذهما بعيدا عن مياهه. وفي الاعوام الخمسة الاخيرة توجه البلدان لتوسيع نفوذهما في البحر الاحمر بشكل خاص، سواء بتحالفهما مع مصر و«إسرائيل» ام مع دول القرن الافريقي. فلدى الامارات عقود «استئجار» مع عدد من هذه الدول وفر لها عددا من المؤانئ عند منطقة باب المندب، مثل جيبوتي واسمرة ومصوع. اما السعودية فتسعى لفتح معبر الى البحر العربي عبر اقليم المهرة اليمين، بالإضافة لتطوير منشآتها على شواطئ البحر الاحمر. يضاف الى ذلك تعويل البلدين على تطبيع علاقاتهما مع الكيان الإسرائيلي والتعاون مع أمريكا لتفعيل «صفقة القرن» وبناء المشروع العملاق الذي اطلق عليه اسم «نيوم».
منذ اكتشاف النفط قبل مائة عام تقريبا أصبح أمن منطقة الخليج على وجه الخصوص موضع نقاش متواصل لم يتوقف خصوصا مع اندلاع الأزمات على ضفافه وفي مياهه
ماذا يعني ذلك؟ وما امكان انشاء مشروع امني للخليج بعيدا عن التأثيرات الانكلو – أمريكية؟ قبل شهور ساد الاعتقاد بان يكون مؤتمر البحرين للأمن الإقليمي الذي عقد قبل بضعة شهور تدشينا لتحالف أمني يضم دول مجلس التعاون وأمريكا وبريطانيا و «إسرائيل». ولكن تطورات الاسابيع الاخيرة زادت الامور تعقيدا، لأنها كشفت التردد الأمريكي عن مواجهة إيران عسكريا بشكل مباشر. وربما اعتبر البعض ان اغتيال الجنرال قاسم سليمان وابي مهدي المهندس بداية مواجهة عسكرية حاسمة، ولكن ذلك لم يحدث، لعلم الأمريكيين بفداحة الحرب وعدم ضمان الخروج منها اذا انطلقت. يضاف الى ذلك تصاعد المعارضة داخل أمريكا للتورط العسكري مع إيران، وتصاعد الضغوط على ترامب خصوصا البدء بمحاكمته في الكونغرس غدا الثلاثاء.
ومن المؤكد ان ترامب كان حريصا على ابعاد الأنظار عن مشاكله الشخصية واشغال الرأي العام بحرب خارجية، ولكن يبدو أن البنتاغون رفض استخدام القوات الأمريكية درعا لحماية ترامب من المشاكل الداخلية التي يواجهها. ويصعب على رئيس اية دولة ان يورط نفسه في حرب غير مضمونة النتائج في ظل معارضة قوية للحرب وتصدع الجبهة الداخلية بنمط غير مسبوق الا في الأزمات الكبرى. وهكذا يظهر ان حسابات ترامب غير دقيقة او واقعية، خصوصا مع بروز مؤشرات لحالة نفسية متداعية لدى الرئيس نفسه. وثمة مؤشرات بأن قرار البرلمان العراقي انهاء الوجود العسكري الأمريكي على أرض الرافدين فاجأ المؤسسة الأمريكية التي كانت تراهن على الاحتجاجات ضد الحكومة التي تشهدها المدن العراقية. تلك الاحتجاجات انطلقت في بدايتها بشعارات ضد الفساد، وانتهت الى حالة من الفوضى السياسية وتحولت الى حركة ضد الدول الإيراني في العراق. مشكلة التفكير الأمريكي اعتقاد اهله بانهم قادرون على الامساك بكافة أوراق الضغط، وان التحرك الميداني الحالي سيصب لصالحهم. ولكن الواقع كشف ان إيران ما تزال قادرة على ممارسة نفوذ لا يقل قوة عن الولايات المتحدة وان بإمكانها قلب الطاولة في العراق على أمريكا برغم قتل الشخصيتين المذكورتين اللتين تعتبران قطب الرحى في السياسات المناوئة للولايات المتحدة.
من هنا يمكن اعتبار الدعوة الروسية لإنشاء حلف أمني إقليمي رهانا على أوضاع اقليمية غير مستقرة ورمال عربية متحركة يصعب رسوها في موقع ثابت. لقد تذوق الروس طعم الحضور السياسي والعسكري في المنطقة، وكيف أن ذلك الحضور يمكن أن يعيد رسم التحالفات بعيدا عن ظاهرة «القطب الواحد» الذي كانت أمريكا تعول عليه منذ ثلاثين عاما، اي بعد تدخلها العسكري في الخليج الذي تزامن مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وقيام نظام القطب الواحد المهيمن على العالم. ولكن الواضح أن أمريكا قرأت هذه التطورات بشكل خاطئ، واعتقدت ان بإمكانها اخضاع المنطقة كاملة عبر البوابة السعودية، الأمر الذي تأكد عدم صوابه. فالسعودية التي عجزت عن لملمة شمل بيت الحكم لديها ولم تنجح في توحيد صفوف مجلس التعاون الخليجي، ليست مؤهلة لدور أمني إقليمي واسع، وان مجلس التعاون، الذي كان الغربيون يعولون عليه لحفظ أمن الخليج تصدع بشكل لم يكن متوقعا قبل بضع سنوات. فلا أمريكا ولا السعودية نجحتا في اية مغامرة سياسية او عسكرية تورطتا بها في العقد الاخير، والواضح أن هناك ما يشبه التراضي بين إيران وتركيا المتحالفتين حاليا ضد أمريكا على تقاسم النفوذ في الدول العربية ذات الشأن. ففيما تتمتع إيران بنفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فان تركيا اصبحت لاعبا اساسيا في سياسات المنطقة، مناهضا للمشروع الأمريكي الذي يجد مصاديق له في سياسات التحالف السعودي ـ الاماراتي. فلديها تحالف مع قطر، الدولة العضو بمجلس التعاون، وحضور في العراق، وموقع متقدم في ليبيا التي أرسلت لحكومتها المعترف بها دوليا قوات جديدة لمواجهة الجنرال خليفة حفتر الذي تدعمه الامارات. وقد ساهمت روسيا في اقرار وقف اطلاق النار الذي يبدو قائما حتى الآن. هذا الحضور التركي يعتبر رادعا للتحالف السعودي ـ الاماراتي، وحاميا لقطر المهددة بعمل عسكري من الرياض أو أبوظبي في أي وقت لولا الخشية من الدخول في مواجهة مع تركيا وإيران.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/01/20