تسع سنوات على الربيع العربي: ثورة البحرين مثالاً
د. سعيد الشهابي
تتباين المشاعر الشعبية في العالم العربي، خصوصاً البلدان التي شهدت ثورات الربيع العربي قبل تسعة أعوام، بين الأمل بحتمية حدوث التغيير أو استمرار القمع والاضطهاد. مشاعر الامل تتأسس على الايمان بالسنن الالهية والقوانين الاجتماعية التي تؤكد أموراً عديدة: أولها أن الظلم لا يدوم، وأن الاستبداد لا يؤسس دولة حديثة، وأن عشق الانسان للحرية لا يمكن تجاوزه أو كسره، وأن الجهود المبذولة للتغيير لا تضيع، وأن الشعب الناهض لا يمكن هزيمته. أما مشاعر الاحباط فما أكثرها في عالم ساد فيه الاستبداد من جهة والجهل الملازم للتعصب والغرور من جهة أخرى. هذه المشاعر تدعمها نتائج الثورات التي انطلقت ضمن ظاهرة «الربيع العربي» وأغلبها كان سلبيا. فحتى تونس لم تحقق التغيير الذي كان شعبها من خلال ثورته يهدف اليه. ومصر سقطت تحت حكم العسكر وتراجعت أوضاعها حتى أصبحت أسوأ مما كانت عليه. أما ليبيا فلا تزال غير قادرة على الاستقرار نظراً لضغوط قوى الثورة المضادة التي تدعم ضابطاً عسكرياً متمرداً يسعى لإسقاط التجربة الديمقراطية المحدودة التي اعترف بها العالم. وتحولت ثورة سوريا الى حرب أهلية طاحنة أتت على الاخضر واليابس ولا يزال شعبها يعاني من التشرد والتمزق والعنف.
وتدخلت قوى الثورة المضادة كذلك لإجهاض ثورة اليمن بحصر التغيير بإزالة رأس الحكم، كما حدث في مصر وتونس. ولما حدث تمرد داخلي على ذلك شنّت قوى الثورة المضادة حربا شعواء أدت إلى أكبر كارثة إنسانية معاصرة تتوالى فصولها حتى الآن. وبقيت البحرين التي شارك شعبها بثورة هي الأكبر في تاريخه، أداة بأيدي قوى الثورة المضادة التي أطلقت العنان لذراعها العسكرية للتدخل المباشر في منتصف مارس/آذار 2011، ولكنها لم تنجح تماما في إخماد تلك الثورة التي أحيا شعبها ذكراها التاسعة الاسبوع الماضي. ويعمق مشاعر التشاؤم ما يحدث في السودان التي انطلق شعبها قبل عام في ثورة عارمة، سرعان ما التفت قوى الثورة المضادة عليها بنمطها المعروف، فأزاحت رأس السلطة وأبقت الحكم العسكري وأخضعت قراره لمراكز خارجية أبرزها دولة الامارات. وبدلاً من أن يستبدل حكم العسكر بحكم مدني، تراجعت أوضاع السودان كثيراً بعد فرض عناصر ضعيفة لإدارته. هذه العناصر، بدلاً من العودة للشعب لاستمداد قوة الموقف والسياسة منه، استسلمت للشروط الأمريكية بشكل مذل. فاستجدت من واشنطن رفع السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وسعى قادتها العسكريون لمد العلاقات مع «إسرائيل» ضمن سياسة جديدة تجسدت في لقاء مهين في أوغندا ضم الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان ورئيس وزراء الكيان الاسرائيلي.
من الذي نهب أموال دول الخليج في السنوات الاخيرة حتى وضعها على حافة الافلاس. ووفقا لتقرير أصدره الاسبوع الماضي صندوق النقد الدولي تواجه دول مجلس التعاون مستقبلا اقتصاديا مزريا قد يوصلها الى حافة الافلاس. ومن أسباب ذلك، وفقا للتقرير، الافراط في تبديد العائدات النفطية وتراجع الطلب العالمي على النفط. فما هي آفاق التغيير في هذه الامة التي تكالب عليها أعداؤها والجهال من أبنائها؟ ما صدقية الادعاء بأنها لن تموت أو تستسلم للظلم أو الاحتلال او الهيمنة؟ وكيف توصف مشاعر الشعوب التي ثارت قبل تسعة أعوام في هبة واحدة ضد الاستبداد؟ وإلى متى سيدوم الوضع الدولي متراجعا على الصعد: السياسية والامنية والاخلاقية؟
فيما هدأت محاور الثورات في أغلب البلدان المحكومة بالاستبداد المطلق، برزت حراكات عديدة في بلدان تمارس قدراً من الانفتاح السياسي مثل الجزائر والسودان والعراق ولبنان. فمن الذي استطاع قلب المثلث السياسي بهذه الصورة؟ أياً كان الامر فإن بقاء أوضاع بلدان ثورات الربيع العربي على ما هي عليه الآن أمر لا يمكن استمراره لأنه مناقض لمبادىء الاستقرار والامن المجتمعي ومسار التطور السياسي البشري. صحيح ان هذا المسار ليس ثابتا بل يشهد صعوداً وهبوطاً، كما هو عليه حال الغرب اليوم من تراجع في منظومته السياسية، ولكن يصعب الاعتقاد بقدرة الاستبداد على الاستمرار اذا كانت هناك شعوب ثائرة ضده.
من المؤكد أن توصيف ثورة البحرين آنذاك بأوصاف خاطئة كالطائفية والإرهاب ساهم في تشجيع التحالف السعودي ـ الإماراتي على الاجتياح
ويمكن القول ان تجربة البحرين، برغم صغرها الجغرافي، تؤكد ذلك. فبرغم تواجد قوات سعودية وإماراتية وباكستانية هدفها إسناد نظام الحكم ومنع قيام ثورة حاسمة لإسقاطه، إلا أنها لم تستطع إزالة الاسباب التي دفعت غالبية الشعب قبل تسعة أعوام للنزول الى الشوارع والتخندق في دوار اللؤلؤة شهراً كاملاً. ذلك التدخل الذي فاجأ العالم كان اختباراً مهماً جداً لتحديد سياسات التحالف السعودي ـ الاماراتي في السنوات اللاحقة..
ولتأكيد الاصرار على منحى التوسع السياسي الاقليمي، شنّ ذلك التحالف حربه المدمرة في مارس 2015 على اليمن، وهي الحرب التي لا تزال مشتعلة حتى الآن برغم مآلاتها الكارثية، العسكرية والانسانية. فقد أدت لحدوث كارثة انسانية هي الكبرى في التاريخ المعاصر. ومن المؤكد أن توصيف ثورة البحرين آنذاك بأوصاف خاطئة كالطائفية والإرهاب، ساهم في تشجيع التحالف السعودي ـ الاماراتي على الاجتياح. كما أن غياب الموقف ازاء ذلك الاجتياح بعد وقوعه شجع التحالف على تكرار تدخله في حالات أخرى. فبعد البحرين واليمن تدخل التحالف في مصر لدعم العسكر بقيادة عبد الفتاح السيسي، وأزيح المرحوم الدكتور محمد مرسي عن الحكم بعد حملة إعلامية مكثفة ومنظمة وفرت أجواء لإسقاطه بدون أن يشعر أحد بتدخل التحالف بشكل مباشر.
الحراك الميداني الواسع الذي شهدته مدن البحرين وقراها في الايام الاخيرة بمناسبة مرور تسعة أعوام على ما حدث في 2011 مؤشر لأمور عديدة: أولها أن الاسباب التي فجرت الاوضاع آنذاك لا تزال قائمة وبالتالي فمن المتوقع تكرر ما جرى مستقبلا، ثانيها ان الشعوب قادرة على تجديد نشاطها برغم الضربات التي توجه لها وحملات القمع والاضطهاد التي تستهدف شبابها، ثالثها ان الادعاءات الزائفة التي تروجها قوى الثورة المضادة من نوع انها «طائفية» أو «دينية» أو «تسعى لإقامة نظام ولاية الفقيه» أو «مشروع إيراني لزعزعة أمن دول الخليج»، أو أنها «إرهابية» قد تبخرت تماما، وأدرك العالم مدى معاناة الشعب البحراني خصوصا بعد حملات السجن والتعذيب والاعدام واسقاط الجنسية، رابعها ان ثورة البحرين هي الاطول بقاء واستمرارا من بين ثورات الربيع العربي، فلم تتوقف أبدا برغم التدخل العسكري وفرض الاحكام العرفية وهدم المساجد واضطهاد المرأة والاستعانة بخبرات أمنية أجنبية أمريكية وبريطانية وإسرائيلية، خامسها ان هذه الثورة جسدت تلاحما مع القضايا العربية من ثورات ومعاناة وحروب. فقد وقفت الثورة، ممثلة برموزها مع تلك القضايا، فاستنكرت الحرب التي شنها التحالف المذكور على اليمن، وطالبت بوقفها ولم تخف تعاطفها مع الشعب اليمني وتضامنها معه، وخرج شبابها في تظاهرات عديدة ضد ما سمّي «صفقة القرن» منددين بالسياسة الأمريكية ومطالبين بإنهاء الاحتلال الاسرائيلي.
الامر المؤكد أن ثمن ذلك الصمود كان كبيراً، فلم تتوقف معاناة اهل البحرين، ماديا وأمنيا وسياسيا، كما لم يتوقف حراكهم الثوري أو تتغير مواقفهم الاسلامية والقومية. وبرغم الدعم الأنجلو ـ أمريكي لنظام الحكم إلا أن الحراك الشعبي لم يعره اهتماما كبيرا، بل استمر في التظاهر والاحتجاج بوتيرة يومية، غير عابىء بسياسات التنكيل التي أدت لإعدام عدد من المواطنين بتهم مختلقة. لقد قضى رموز الحراك والثورة تسعة أعوام كاملة وراء القضبان، ولكنهم يرفضون أية محاولة لتمييع الموقف أو مسايرة أية خدعة حكومية كما فعلت قبيل نهاية انتفاضة التسعينات عندما طرحت مشروع الميثاق الوطني للتصويت في 14 شباط/فبراير 2001. لقد استفاد شعب البحرين من التجارب السياسية العديدة، وأصبح متمرداً على أساليب الخداع والتضليل.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/02/17