الضفّة الغربيّة تستقبل بومبيو بالشّهداء وقتل أوّل إسرائيلي بالحِجارة في عصر الكورونا والتّطبيع.. لماذا نعتقد أنّ هديّة ترامب “المسمومة” لنِتنياهو وتابِعه غانتس بضَم المُستوطنات والأغوار ستُعطِي نتائج عكسيّة؟
عبد الباري عطوان
استقبل شباب الضفّة الغربيّة المحتلّة مايك بومبيو وزير الخارجيّة الأمريكي الزّائر لدولة الكِيان المُحتل الاستقبال الذي يستحق بالعودةِ إلى الحجارة، وتقديم رسالةً قويّةً تُؤكِّد أنّ هذا الشّعب لن يرضَخ للاحتلال، وسيُقاومه بكُل الوسائل، ولن يركَع مُطلقًا، حتى لو ازداد طابور المُطبِّعين والمُستَسلمين العرب، وعلى رأسِهم سُلطة رام الله طُولا.
بعد فشل إدارة ترامب داخليًّا، وخارجيًّا، داخليًّا في مُكافحة فيروس الكورونا حيث تجاوز عدد الوفيّات 82 ألف حالةً، وحطّم عدد الإصابات رقم 1.4 مِليون إصابة، واقترب تِعداد العاطِلين عن العمل من 50 مِليونًا، وخارجيًّا بتصاعُد القوّة الصينيّة، اقتصاديًّا وعسكريًّا وصحيًّا، واقتِرابها من إزاحة الولايات المتحدة كقُوّةٍ عُظمى أُولى، والتّحالف الصيني الروسي الجديد الذي سيَستخدِم الفيتو المُزدوج في مجلس الأمن لإحباط أيّ مشروع أمريكي بتمديد حظر السّلاح مع إيران، مِثلَما أحبط مشروعًا أمريكيًّا آخر لإدانة سورية باستِخدام الأسلحة الكيماويّة للمرّة الثّانية قبل أيّام.
***
عندما يتقدّم المرشّح الديمقراطي جو بايدن على خصمه الجُمهوري في الانتخابات الرئاسيّة المُقبلة بثماني نقاط حسب استِطلاعٍ لوكالة “رويترز”، ويُؤكِّد 46 في المِئة من الأمريكيين أنّهم سيُعطونه أصواتهم انتقامًا مِن سياسات ترامب التي دمّرت الاقتِصاد، وتعاطيه كمُهرِّج مع أزمة انتشار الكورونا، فمِن الطّبيعي أن يجعل بومبيو القدس المحتلّة زيارته الأُولى بعد شهرين من الحجر، فإسرائيل ربّما هي الورقة الوحيدة الباقِية للإدارة الحاليّة بعد أن خَسِرت كُل الأوراق الأخرى السياسيّة والاقتصاديّة.
ترامب الذي استحقّ سُخرية الشعب الأمريكيّ، والعالم بأسرِه عندما طالب الأمريكيين بشُرب المُطهّرات للشّفاء من كورونا، وحَرّض أنصاره العُنصريين على تحرير ولاية ميتشيغان بالقوّة، وخرق الحظر والحجر، بات الارتِباك واضحًا عليه وهو المُتغَطرس عندما تطاول على صِحافيّةٍ من أصولٍ آسيويّةٍ (صينيّة) أثناء مُؤتمره الصّحافي اليومي، وانسَحب بطريقةٍ تتّسم “بالرّعونة” لأنّه لا يملك الإجابة عن سُؤالها بفَشِله وإدارته في مُواجهة أزمة كورونا، وارتِفاع عدد الوفيّات بأرقامٍ قياسيّةٍ.
التّأييد الأمريكيّ المُتوقّع الذي يحمله بومبيو في جُعبته كهديّة لنِتنياهو بضم المُستوطنات والأغوار، أيّ ثُلث الضفّة، لن يُعزِّز فُرص ترامب الانتخابيّة، وقد يتحوّل إلى وبالٍ على رأسِ نِتنياهو وحُكومته الائتلافيّة، فالضفّة الغربيّة تغلي بالغَضب، والشّعب الفِلسطيني أشعل فتيل انتفاضته مُبكِرًا، وأثبت للعالم بأسرِه أنّ الحجَر أقوى من البندقيّة خاصّةً إذا كان في أيدي الشّباب المُؤمِن بعقيدته وقضيّته ويسعى للشّهادة.
بومبيو يُدرك جيّدًا أنّ هُناك ورقتين أساسيّتين يُمكن أن يُنقِذا معلّمه ترامب من خسارةِ الانتخابات المُقبلة، وتحويل الأنظار عن الفشَل الداخليّ:
الأولى: تشجيع، بل تسريع الضّم للمُستوطنات وغور الأردن، لإرضاء اللّوبي اليهودي في واشنطن، ويُقدِّم له ولإسرائيل هذه الهديّة المسمومة دونَ أن يَقصِد.
الثّانية: افتِعالُ حربٍ، ولو مَحدودةً، مع إيران لاستِعادة الهيبة الأمريكيّة، التي مرّغ الإيرانيّون أنفها بالتّراب عندما أسقطوا طائرة “غلوبال هوك” المُسيّرة، ودمّروا مُنشآت النّفط السعوديّة في بقيق، وقصَفوا قاعدة عين الأسد الأمريكيّة في الأنبار رَدًّا على اغتِيال قاسم سليماني.
عودة الانتفاضة إلى الأراضي المحتلّة، وبقوّةٍ أكبر، هذه المرّة ستُزَعزِع استِقرار الدولة العبريّة وأمنها، فاليوم صخرة تقتل جنديًّا إسرائيليًّا، وغدًا صاروخًا يَضرُب هذه المُستوطنات ومُستوطنيها في العُمق، ولن يلوم العالم جِنرالات الانتِفاضة الجُدد من الجيل الذي كفَر بأوسلو وسُلطتها، ولم يَعُد محكومًا بإذلال عُبوديّة الرّواتب مِثل آباءه وأجداده، إذا ما أقدم على هذا الخِيار، فالشّهيدان اللّذين سقطا في مُواجهات جُنود الاحتِلال في اليومين الماضيين لا يَزيد عُمرهما عن 15 عامًا، وهُنا تَكمُن المُعجزة وتتبلور صُورة المُستقبل.
الفِلسطينيّون الذين اخترعوا الطّائرات الورقيّة والبالونات الحارِقة في قِطاع غزّة، وقبلها الصّواريخ الدّقيقة والطّائرات المُسيّرة، وقصفوا تل أبيب ومنعوا الدبّابات الإسرائيليّة التقدّم مِترًا واحِدًا في أرض القِطاع المُحاصر هم نفسهم الذين يتحدّون الاحتِلال حاليًّا في الخليل وجنين ونابلس وكُل مُدن وقرى الضفّة الصّامدة، ولا نَستبعِد مُفاجآت تجعل الإسرائيليين لا يندمون فقط على ضَمِّ الأغوار والمُستوطنات، وإنّما ضمُّ القدس المحتلّة، وهضبة الجولان أيضًا، واستِمرار البقاء في الأرض المحتلّة كقُوّة احتِلال.
نحن لا نَستغرِب رفض حركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي” المُشاركة في اجتماع قيادي دعا إليه الرئيس محمود عبّاس في رام الله يوم السبت المُقبل لبحث ضم سُلطة الاحتلال المُستوطنات وغور الأردن فالمُؤمن لا يُلدَغ من الجُحر مرّتين.
الحَركتان شارَكتا في اجتماعٍ سابقٍ مُماثلٍ دعا إليه الرئيس عبّاس في 28 كانون الثّاني (يناير) الماضي لمُواجهة صفقة القرن، وهدّد بإلغاء التّنسيق الأمني واتّفاقات أوسلو، وانتهى الاجتِماع بتوفيرِ غِطاءٍ للسّلطة لمُواصَلة اللّقاءات مع الحُكومة الإسرائيليّة واستِعادة بعض الأموال المُجمَّدة.
ولن يكون مُفاجئًا بالنّسبة إلينا إذا ما كرّر الرئيس الفِلسطيني الشّيء نفسه واستَخدم مُشاركتهما كورقة للحُصول على تنازلاتٍ إسرائيليّةٍ ماليّةٍ، خاصّةً في موضوع الأسرى، فكم مرّةً هدّد وتوعّد بالرّد الحاسِم، وكم مرّةً عقَد المجلس المركزيّ، والمجلس الوطنيّ، والمجلس الثوريّ، والقِيادة الفِلسطينيّة المُوسّعة، واستَصدر قرارات بحل السّلطة وإلغاء أوسلو والتّنسيق الأمني وظلّت هذه الإقرارات حِبرًا على ورق، ولماذا سيكون اجتِماع السبت القادم مُختَلِفًا؟ ونأمَل أن نكون مُخطِئين.
يرتكب نِتنياهو المُدان بالفساد، وتابعه بومبيو، إذا اعتقدا أنّ الجيل الجديد من شبّان الضفّة سيقبلون بالخُنوع والإذلال الذي قبِلَت به سُلطتهم وبعض فصائلها على مدى 26 عامًا من الخديعة، وهي سُلطةٌ ستدخل التّاريخ كأوّل وآخِر حركة تحرير تجسّست على شعبها، وتحوّلت إلى إدارةٍ في يَد المُحتَل، تعمل وكيلًا له، وتَنوب عنه في قتل ومُطاردة كُل النّشطاء وتقديمهم لسيّدهم الإسرائيليّ.
هؤلاء رجالٌ في زَمنٍ عزّ فيه الرّجال يُدافعون عن أرضهم وكرامتهم في مُواجهة عدوٍّ مُتَغطرِس، لا يحترم توقيعه، ويُمارس العُنصريّة في أبشع صُورها، ويتباهى بإعادة إرث دولة التّمييز العُنصريّ في جنوب إفريقيا في فِلسطين المحتلّة، ويَجِد الدّعم والمُساندة من هذا الغرب المُنافِق.
الضفّة الغربيّة تعود بسُرعةٍ إلى مسيرتها الأولى، إلى انتفاضتيّها الأولى والثّانية، وتحقيق التّكامل على أرض المُقاومة مع الشّق الآخَر في قِطاع غزّة، أمّا إشعال فتيل المُقاومة مع إيران فسيكون غلطة العُمر، تمامًا مِثل غلطة السعوديّة في اليمن، وغزو أمريكا للعِراق وأفغانستان، ويكفي القول والتّذكير أنّ إيران أطلقت قبل أيّام صاروخًا حمَل قمرًا صِناعيًّا حربيًّا إلى الفضاء، واستطاعت تجاوز وامتِصاص آثار الحِصار الخانِق، وباتت الأقل خسارةً في الحرب النفطيّة، لهذا ستكون عصيّةً على تحالف الشّر الأمريكيّ الإسرائيليّ، ومِثلَما كان انتهى بارسال الطّائرة المُسيّرة دُرّة التّاج الاستِخباري الأمريكيّ، بنتائجٍ مُهينةٍ ومُذِلَّةٍ قد يتكرّر المشهد نفسه في مِياه الخليج وبحر عُمان، وسيأتي الرّد الانتقاميّ لو تأخّر قليلًا على الغارات الإسرائيليّة في سورية.
***
مقتل أوّل جندي إسرائيلي بحَجرٍ في عصر الكورونا هو رسالة لنِتنياهو وترامب بأنّ هذا هو المَصير الذي ينتظرهم سواءً ضمّوا المُستوطنات وغور الأردن أو لم يضمّوها، رسالة تقول إنّكم تستعدون لاتّخاذ القرار الخطأ ومع الشّعب الخطأ، واستِفزاز عشّ الدّبابير في أرضِ الجبابرة.
سيندم نِتنياهو مِثلَما ندم أولمرت وقبله باراك اللّذان هُزِما في لبنان، وسيندم ترامب مِثلَما نَدِم بوش لغزو العِراق وأفغانستان، وسيذهبوا جميعًا إلى مزبلة التّاريخ، وستبقى المُقاومة ورِجالها، وستنتصر مِثلَما انتصرت كُل مثيلاتها في التّاريخ قديمه وحديثه.. والأيّام بيننا.
جريدة الرأي اليوم
أضيف بتاريخ :2020/05/14