رمضان والعيد وإشكاليتا الأخلاق والإنسانية
د.سعيد الشهابي
أبارك للمسلمين عيد الفطر الذي احتفوا به يوم أمس بعد أن صاموا شهر رمضان المبارك وأغلبهم في ظروف الحجر والتباعد الاجتماعي، بسبب انتشار وباء كورونا. وكثيرا ما طرح السؤال التقليدي الذي تتعدد الاجتهادات للإجابة عليه: ما الدروس المستلهمة من الصوم وشهره؟
هذه مسألة يجد الوعّاظ فيها مادة للتبليغ الديني الذي كثيرا ما كان مكررا ونظريا. لن ندخل هنا في سجال ديني حول الانعكاسات العملية للعبادات الدينية، فلذلك منابره الخاصة. ولكن مسألة واحدة تضم عددا من الأمور التي تزامنت معاّ خلال شهر رمضان المنصرم. فبالإضافة لممارسة الصوم المفروضة على المسلمين بنص قرآني صريح، كان هناك وباء فيروس كورونا والذكرى الثانية والسبعون للنكبة وقتل فتاة لبنانية بإحدى المدن البريطانية. ما الخيط الرفيع الذي يجمع هذه القضايا؟ يمكن الزعم هنا بأن مقولة «الإنسانية» تجد لها مصاديق واقعية في القضايا المذكورة، وهي مقولة يرفعها الكثيرون شعارا ولكنها كثيرا ما تتلاشى في الواقع العملي، الا لدى النخبة التي تؤمن بها حقا. فالمصالح الفردية والرغبات الأنانية والخصوصيات الثقافية والعصبيات الدينية والمشاعر الفئوية والاطماع السياسية تفرض نفسها على الافراد والمجموعات وتهمّش الأهداف المرتبطة بالقيم والمبادئ والانتماء العقائدي والايديولوجي. ومفهوم «الإنسانية» عادة ما يكون الأسرع تلاشيا والأقل حضورا، برغم أنه مبدأ تجمع عليه الأديان والأيديولوجيات. ومع عدم الرغبة في استخدام مصطلحات غريبة ومنفصلة عن الخطاب الاجتماعي السائد، الا ان مصطلح «الشوفينية» قد يكون الجامع لأسباب هذه الظواهر. ووفقا للتعريف المستفاد من البحث في الشبكة الدولية «جوجل»، فإنها تعني الاعتقاد المغالي والتعصب لشيء والعنجهية في التعامل مع خلافه، وتعبر عن غياب رزانة العقل والاستحكام في التحزب لمجموعة ينتمي إليها الشخص والتفاني في التحيز لها؛ وخاصّة عندما يقترن الاعتقاد أو التحزب بالحط من شأن جماعات نظيرة والتحامل عليها، وتفيد معنى التعصب الأعمى. أما اصلها فيظهر البحث أنها جاءت من اسم «نيكولا شوفان» الجندي الفرنسي الذي جرح عدة مرات في حروب الثورة الفرنسية وحروب نابليون ولكنه ظل أبداً يقاتل في سبيل مجد فرنسا ومجد نابليون، وتستعمل الشوفينية حالياً في مجال الاستهجان وعدم الاستحسان وتمثل النازية الألمانية قمة التعصب الشوفيني.
ماذا يعني ذلك في إطار هذا النقاش؟ يفترض أن يكون الصوم ممارسة لها ابعادها العملية، بالإضافة لمنطلقها الديني وشأنها العبادي. فالجوع تجربة انسانية قديمة ـ جديدة، وما أكثر الجياع في عالم القرن الحادي والعشرين الذي يعاني أهله من الجوع المعيشي او السياسي او الاخلاقي. ويفترض ان يكون الصوم دافعا للنهوض الاخلاقي في صفوف ممارسيه، لأنه الهدف الأساسي من البعثة النبوية كما حدده محمد بن عبد الله عليه افضل الصلاة والسلام بقوله: انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ويُفترض ان تكون الاخلاق حاضرة في الصوم، لذلك قال في خطبته في استقبال رمضان: «مَن حسّن منكم في هذا الشهر خُلُقه كان له جوازاً على الصراط يوم تَزِلُّ فيه الأقدام». من هنا يفترض ان يكون الخطاب الإسلامي خصوصا لدى حملة مشروع ما يسمى «الإسلام السياسي» أخلاقيا. فان نجم عن ممارسة الصوم وصول الأمة الصائمة الى مستوى اخلاقي بمستوى الخلق المحمدي الذي وصفه القرآن الكريم بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم» فقد تحقق الهدف من التنزيل الإلهي للدين. والا انحصر الصوم، وغيره من العبادات، ضمن الطقوس التي يكررها الإنسان بدون ان يكون لها انعكاس عملي في حياته. ولامتحان عمق الدرس الأخلاقي المستفاد يمكن طرح تساؤلات عديدة منها: هل عشت الهم الإنساني وأنت صائم؟ هل كانت زكاة العيد منطلقة من رغبة في مساعدة الآخرين؟
إنه تحول نفسي تاريخي لا يمكن التقليل من شأنه، أكدته بشكل عملي تظاهرات «العودة» التي بدأت العام الماضي واستشهد فيها عشرات الفلسطينيين. إنه تحول تاريخي منع الهزيمة النفسية التي لو حدثت لانتهت القضية ولأعلن الصهاينة «انتصارا» دائما
هل تذكرت المنكوبين في هذا العالم؟ هل شعرت يوما بمسؤوليتك عن دعم مسلمي بورما مثلا؟ او مسلمي الهند؟ او ضحايا الزلازل والاعاصير في بقاع العالم؟ هل تضامنت مع المعتقلين السياسيين الذين قضوا بطوامير التعذيب خلال شهر الصوم برغم استمرار جائحة كورونا؟ وربما السؤال الاهم: ماذا فعلت في الذكرى الثانية والسبعين للنكبة التي ادت لاحتلال فلسطين وتشريد اهلها واستمرار قتل اهلها يوميا بدون رحمة؟ ما دورك في السعي لتحرير ارض المعراج؟ وأين تقع مدينة القدس في مشروع حياتك؟ هل فكرت لحظة ان كانت هذه القضايا مرتبطة بصومك؟ أين تقع الإنسانية، كمفهوم يهدف لحماية الجنس البشري من الظلم والاستبداد والاحتلال والفاقة، في تفكيرك؟ وفي النهاية: أين التجسيد الاخلاقي للصوم؟
هذه الاحاسيس لا تنفك عن التفكير المقلق لدى قاطني هذا الكوكب إزاء الوباء الذي يهدد الجميع. فهذا الوباء بالإضافة للمرض والجوع والاضطهاد السياسي هموم ابتليت بها الإنسانية ماضيا وحاضرا. وأظهرت الجائحة تراجعا سياسيا وأخلاقيا لدى أطياف واسعة من الحكام، خصوصا في واشنطن وبعض العواصم الأوروبية. وهنا كانت الشوفينية حاضرة في السجالات السياسية والاقتصادية، خصوصا عندما يتداول السياسيون في نقاشات خطيرة مثل: أين نضع الخط الفاصل بين اجراءات الحد من الوباء وحماية الاقتصاد؟ ما المعيار الأخلاقي الذي يمكن استخدامه لتحديد من له الأولوية في العلاج لكي لا يموت ومن يمكن تركه بلا علاج لأن نصيبه من الحياة قليل (هذه تساؤلات حقيقية طرحها الاطباء البريطانيون خصوصا في الاسابيع الاولى بعد انتشار الجائحة والخشية من عدم توفر ما يكفي لعلاج الجميع)، من الذي يعطي الأولوية لإجراء الفحص عن المرض او الحصول على الاجهزة الواقية منه؟ وضاعف من الأزمة الأخلاقية تصريحات الرئيس الأمريكي وتصرفاته التي كان من نتائجها انتشار الوباء في امريكا بمعدل تجاوز كافة دول العالم، فكان نصيبها ثلث نصيب العالم من الاصابات والوفيات، وتخلي أمريكا عن مسؤوليتها العالمية ازاء الوباء. فأمريكا تعطي نفسها الحق لنشر قواتها في كل بقاع العالم بدون استثناء، من اوروبا الى الخليج والمحيط الهندي وبحر الصين الجنوبي، ولكنها لا تجد نفسها معنية باتخاذ موقف ضد القرارات الإسرائيلية بضم الأراضي الفلسطينية في انتهاك صارخ للقرارات الدولية.
الإنسانية هنا استبدلت بـ «الشوفينية» الامر الذي اقنع مفكري العالم وسياسييه بان العالم لن يكون بعد احتواء كوفيد -19 كما كان قبله، وان التحالفات الدولية سوف تتغير بعد ان فشلت امريكا في توفير قيادة فاعلة للعالم لمواجهة أكبر خطر تواجهه منذ الحرب العالمية الثانية. الاخلاق والإنسانية اصبحتا من اهم ضحايا التوازن الدولي القلق الذي ساد العالم في العقود الثلاثة الماضية (حيث سقوط الاتحاد السوفياتي واستقدام القوات الامريكية لحرب الكويت بطلب سعودي مباشر، وتراجع منظومات حقوق الإنسان والديمقراطية في العالم).
الأخلاق مرة أخرى. هذه المرة يتجلى انعدامها بتلاشي الاهتمام العالمي بما يجري في فلسطين. فذكرى النكبة مرت بدون اهتمام سياسي او اخلاقي بما يعانيه الفلسطينيون المحاصرين برا وجوا وبحرا. هذا الشعب سجل حضوره التاريخي برفض الاحتلال 72 عاما، ودفعته كرامته، برغم حاجته، لرفض «معونة» اماراتية الاسبوع الماضي عندما حطت طائرة تابعة لطيران «الاتحاد» التي تملكها أبوظبي بمطار بن غوريون. فقد دفعته «أخلاقه» لذلك الموقف مفضلا الجوع على الاعتراف بالتطبيع الإماراتي ـ السعودي ـ البحريني مع محتلي ارضه. وبهذا تحولت «النكسة» من مفهوم تاريخي يؤكد الترنح العربي امام الضربات الإسرائيلية، الى مناسبة تعيد صياغة مفاهيم «الحق» و «الكرامة» و «الوطن»، وبعد ذلك وقبله مفهوم «المقاومة» هذه المرة لم تعد المقاومة ممارسات محدودة كما كانت خلال ما سمي «حرب الاستنزاف» التي اعقبت نكسة حزيران في العام 1967 بل اصبحت مشروعا للتحرير.
هذا المشروع يرفض التنازل عن الحق الأزلي او الاستسلام امام الاحتلال المدعوم بالقوى التي أخضعها فيروس كورونا، او إقرار المشاريع الانبطاحية التي يروّجها المال النفطي في ظل انعدام «الاخلاق» والمبدأ والكرامة. إنه تحول نفسي تاريخي لا يمكن التقليل من شأنه، أكدته بشكل عملي تظاهرات «العودة» التي بدأت العام الماضي واستشهد فيها عشرات الفلسطينيين. إنه تحول تاريخي منع الهزيمة النفسية التي لو حدثت لانتهت القضية ولأعلن الصهاينة «انتصارا» دائما. وما الجهود التي بذلت لإحياء يوم القدس العالمي في بلدان شتى أسيوية وافريقية وغربية الا مؤشر لتمرد قضية فلسطين على الاضمحلال او التلاشي او الفناء.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/05/25