سياسات ترامب تحول دون التوافق الدولي
د. سعيد الشهابي
أظهرت أزمة الوباء المرتبط بفيروس كورونا تباينات دولية على كافة الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاخلاقية. ومن المؤكد أن هناك اختلافات في الرؤى والتقييمات بين البشر، وهو أمر طبيعي، ولكن عندما يرتبط الخلاف او الاختلاف بالأشخاص وأذواقهم أو منطلقاتهم الأخلاقية، فان الوضع يزداد تعقيدا خصوصا في ازمة كالتي تعصف بالعالم، وهي غير مسبوقة منذ وباء الانفلونزا الاسبانية التي ضربت العالم في العام 1918 التي لم يعشها باستيعاب حقيقي حتى السيد ويتون، المسنّ البريطاني الذي توفي الاسبوع الماضي عن 112 عاما من العمر.
وليس هناك ما يغطي التباينات الواضحة في السياسات التي انتهجتها الدول لوقاية شعوبها من هذا الوباء الذي لم يتمكن العالم حتى الآن من احتوائه بثقة، خصوصا مع ترسخ القناعة باحتمال حدوث موجة اخرى منه قبل نهاية العام، خصوصا في الخريف والشتاء المقبلين. ويتضاعف هذا القلق في ظل عدم توفر الوسائل الأساسية لمكافحة الوباء: المصل الواقي، الدواء لعلاجه، الفحوصات الموثوقة للأشخاص لكشف الاصابة. يضاف الى الادوية والامصال عدم معرفة طبيعة الفيروس وطريقة عمله والمناطق التي يعطبها في الجسد، وما اذا كانت الاصابة به مرة واحدة توفر مناعة ضد تكرر الاصابة، ومدى خطره على الاطفال. وباختصار فان التجربة الإنسانية طوال الشهور الستة التي هي الأكثر تأثيرا على التاريخ البشري المعاصر من أية حقبة اخرى، لم ينجم عنها معرفة حقيقية بالوباء وطرق الوقاية منها او معالجته.
أمريكا نجحت الاسبوع الماضي بإطلاق اول صاروخ منذ عشر سنوات يحمل رائدي فضاء عبر شركة تجارية، ولكن المؤكد ان ذلك الانجاز لا يغطي على عجز امريكا عن منع الاصابات والوفيات بالوباء. فما أبعاد هذه السجالات؟
قبل ايام قررت سلطات كوريا الجنوبية المعنية بالوباء غلق المرافق العامة كالحدائق والمتاحف والمسارح والمدارس الخاصة. لماذا؟ هيئة المراكز الكورية للسيطرة على الامراض والوقاية» قالت انها سجلت 79 اصابة جديدة بفيروس كورونا في محيط العاصمة، سيؤول. هذا التطور دفع تلك الهيئة لإصدار القرار المذكور. وحتى الآن اعتبرت تجربة كوريا الجنوبية في احتواء الوباء من أفضل التجارب العالمية، فقد احتوت الاصابات بقرار الغلق التام مبكرا قبل استفحال المرض، وقلت اعداد الوفيات الناجمة عنه. في مقابل ذلك تسجل بريطانيا أكثر من ألفي و300 وفاة يوميا، ولكن حكومتها قررت تخفيف قرار العزل، وفتح المدارس وبعض القطاعات الاقتصادية وسمحت بالزيارات العائلية ضمن ضوابط التباعد الاجتماعي. وتعتبر بريطانيا ثاني بلد في العالم حتى الآن من حيث عدد الوفيات التي تجاوزت 40 الفا. بل ان تجارب الدول الاوروبية كافة (باستثناء المانيا) مع المرض لم تكن مشجعة، بل سجلت اعلى الاصابات والوفيات، مقارنة بالصين وكوريا الجنوبية وإيران. وهنا تتداخل الأوراق ويحدث التشوش. لماذا كانت تجربتا الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا أسوأ التجارب على الاطلاق؟ ماذا يعني ذلك وما اثره على مستقبل التوازن السياسي الدولي؟ كيف سيكون مستقبل البشرية في المستقبل المنظور والبعيد خصوصا في ظل التراجع البيئي الناجم عن الجهل البشري المغلف بمقولات التقدم العلمي؟
أليس من المتوقع حدوث توترات سياسية خطيرة بين الدول الكبرى بسبب التباين في التجربة مع الوباء، قد تؤدي لصراع نووي؟
أين ذهبت التجربة التراكمية، السياسية والعلمية والاقتصادية، التي استمرت اكثر من سبعين عاما (منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية)؟ هل كانت الانجازات البشرية وهمية؟ ام انها حقيقية ولكنها لم تؤسس على الاخلاق والقيم والمبادئ السامية. واخيرا كيف ستخرج المقولات الدينية من هذه الفسيفساء الفكرية والسياسية التي تتحرك علنا وفي جوانح المفكرين والعلماء منذ ان ظهر عجز الجميع في مواجهة الوباء.
التجربة الإنسانية طوال الشهور الستة التي هي الأكثر تأثيرا على التاريخ البشري المعاصر من أية حقبة اخرى، لم ينجم عنها معرفة حقيقية بالوباء وطرق الوقاية منها أو معالجته
لعل الظاهرة الأبرز في السجال بين الدول وفي الاوساط الحكومية بكل منها، التنافس بين اولويتين بشكل خاص: احتواء الوباء والحفاظ على الاقتصاد. ففي الموجة الاولى من انتشار الوباء، اصيب الغربيون باختلال في التوازن، فاتخذوا سياسات متباينة ادت لنتائج مختلفة. فالإصابة التي لا تؤدي لوفيات كثيرة لا تمثل المصدر الاكبر للقلق، بل ان خوف الانسان من الموت هو مصدر القلق. في البداية قيل ان جائحة كوفيد -19 ستكون شبيهة بالانفلونزا الموسمية التي تقضي على البعض ولكن اغلبية من يصاب بها لا يموت. ولكن سرعان ما تغير المشهد، واختلف التقييم واتضح ان الوباء أخطر كثيرا من كافة الاوبئة، وليس له مثيل سوى الايبولا والطاعون (الموت الاسود) وربما الانفلونزا الاسبانية.
وهنا تباينت الافكار والتوجهات البشرية.
فاصبح الموت شبحا يلاحق الجميع، خصوصا عندما تنتشر اعداد الموتى، وبعضهم في مقتبل العمر، بعد ايام من الاصابة بالفيروس. وفيما انشغل السياسيون بالتفكير في مستقبلهم وربط بقائه في المنصب بمدى قدرته على انقاذ شعبه من الوباء، اصبح الانسان العادي مطاردا بشبح الموت، خصوصا عندما ظهر القادة السياسيون بشكل يومي على شاشات التلفزيون ليخاطبوا شعوبهم بقلق غير مسبوق. بدا بعض هؤلاء مرتبكا حدا خصوصا من اصيب بالجائحة كرئيس الوزراء البريطاني الذي توارى عن الانظار شهرا كاملا. هنا بدأ الثلاثي المخيف يطارد الكثيرين: الوباء والموت والاقتصاد. وربما توارى البعد السياسي قليلا ولكن غلف ذلك بإثارات ايديولوجية بدأها بعض الزعماء الغربيين خصوصا الرئيس الامريكي. ولا بد ان يسجل لألمانيا وقادتها قدرتهم على تجاوز تلك الاعتبارات. فقد انتهجوا اساليب ثلاثة: اولها التصدي للجائحة بتوفير وسائل الفحص الواسع مهما كلف الامر، وتوفير طاقة علاجية كافية لتستوعب الاعداد الكبيرة المتوقعة من المصابين. ثانيها: دفع العلماء للإسراع بأبحاثهم العلمية من اجل التوصل لمضادات واقية وادوية علاجية، وثالثها: توسيع الاهتمام الانساني ومد الايدي لمن يحتاج، ففتحت مستشفياتها لاستقبال المصابين من ايطاليا واسبانيا عندما خرجت الاصابات في هذين البلدين عن السيطرة.
يقابل ذلك طرحت قضايا الايديولوجيا والثقافة والدين ضمن سياقات السجال الذي بدأته امريكا. الرئيس الامريكي ربما انطلق من شعوره بعدم قدرة طواقمه على ادارة الازمة، بالإضافة لانشغال ذهنه بالصراع الاقتصادي والسياسي والعسكري مع الصين تارة ومع إيران ثانية، ومع اوروبا ثالثة. هذا الصراع ليس جديدا، بل بدأ منذ اكثر من خمسة اعوام عندما قررت الولايات المتحدة نقل ثقلها العسكري من منطقة الشرق الاوسط الى جنوب شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي. واعتبر التوسع الاقتصادي الصيني مصدر تهديد حقيقي للهيمنة الأمريكية. ونجحت امريكا في استماله الهند الى جانبها في ذلك الصراع الذي استخدم الدين فيه سلاحا.
الامر المؤكد ان الاختلاف في السياسات ازاء الجائحة تم توجيهه ايديولوجيا بشكل مقزز. ويمكن الزعم بان هذا التوجه قد انقلب على مروجيه. وبشكل تدريجي اصبحت امريكا محاصرة بالخطاب الذي انتجته سياسات رئيس لا يتوفر على مستلزمات قيادة دولة عظمى، ولا يستطيع فصل سياساته عن مشاعره الشخصية وتحسسه من النقد ورفضه الرأي الآخر. لذلك دخل في صراعات لا تنتهي مع منافسيه واخترق البروتوكولات التي حكمت زعماء البيت الابيض، فاستهدف الرئيس السابق، باراك اوباما بشراسة، واستهدف الديمقراطيين، كما استهدف المسلمين منذ الايام الاولى لرئاسته وأطلق سهامه على إلهان عمر بشكل متواصل لم يتوقف. الجائحة كانت تحديا اكبر من ترامب وما يمثله، وبدلا من توجيه امكانات امريكا لمواجهة اكبر تحدٍ يواجه البشرية، شغل نفسه بمهاترات بلغت حد الاستسخاف والازدراء، حتى تداعت شعبيته كثيرا.
وهكذا يتضح ان السباق هذه المرة لم يكن بين الاغنياء والفقراء، ولم يشمل ما تملكه الاطراف من طائرات وصواريخ وقدرات عسكرية بقدر ما يتوفر كل منهم على عقل راجح وتوجهات انسانية صادقة وتركيز على الخطر المحدق بالبشرية بدلا من الانتهازية والاستعلاء خصوصا في زمن المحنة. الامر المؤكد ان الازمة الحالية كشفت مكامن القوة والضعف لدى القوى العالمية، وكشفت ضحالة الانتماء الإنساني لديها.
جريدة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/06/01