الإمبراطورية الأميركيّة المتصدّعة… هل دخلت مرحلة التفكّك والأفول؟
حسن حردان
طرحت المواجهات العنيفة التي تشهدها عشرات المدن في الولايات المتحدة الأميركية، على خلفية جريمة قتل الشرطة للمواطن الأميركي جورج فلويد من ذوي البشرة السمراء… طرحت السؤال عما إذا كانت الإمبراطورية الأميركيّة المتصّدعة قد دخلت فعلياً مرحلة الأفول، وخطر تفكّك الاتحاد الفيدرالي الذي تتشكّل منه الولايات المتحدة الأميركيّة. وتمزّق وحدة مجتمعها.. هذا السؤال ينطلق من حقيقة تقول، إنّ عناصر القوة التي كانت في أساس تماسك الولايات المتحدة، اتحاداً ومجتمعاً، وتقدّم ما سُمّي بالحلم الأميركي، قد انتهت ولم تعد قائمة.. وهذه العناصر هي:
أولاً، تلاشي مرحلة ازدهار الاقتصاد الأميركي ومعدلات النمو المرتفعة التي كان يحققها وتؤمّن فرص العمل ومستوى دخل مرتفع وقدرة شرائية كبيرة للأميركيين، وحلّ مكانها أزمة اقتصادية عنيفة تراجعت معها معدلات النمو والدخل المرتفعة والقدرة الشرائية، في ظلّ ارتفاع مهول في حجم الدين العام الذي بلغ عتبة الـ 25 تريليون دولار، فيما العجز في الميزانية وصل إلى تريليون دولار.. وقد أدى ظهور فايروس كورونا وتعرّض أميركا لكارثة نتيجة انتشاره الواسع فيها وارتفاع عدد الإصابات والوفيات، أدّى إلى شلل الاقتصاد وبالتالي كساد الإنتاج وخسائر بمئات المليارات الدولارات…
ثانيا، انتهاء مرحلة الاستقرار الاجتماعي، حيث بات عدم الاستقرار هو المسيطر بسبب تزايد الفقر وانتشار البطالة حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل اكثر من 40 مليون أميركي وهو رقم كبير جداً، نسبة لتعداد السكان، في حين يفتقد الأميركيون للضمانات الاجتماعية والصحية والتي عمقت الأزمة الاجتماعية وزادت من حدتها وكشفت الطبيعة المتوحشة للنظام الرأسمالي النيوليبرالي الأميركي الفاقد للقيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية وعجزه عن مواجهة تفشي فايروس كورونا..
ثالثاً، تراجع قيم المساواة والعدالة والحرية، التي تقدّمت نسبياً في مرحلة الازدهار الاقتصاد والبحبوحة، لتحلّ مكانها سياسات التمييز العنصري المتجذرة في النظام الأميركي منذ مئات السنين، والتي يغذّيها خطاب عنصري متعجرف ومتغطرس للرئيس دونالد ترامب يصف المحتجين على سياسات التمييز وعنف الشرطة بـ «المتطرفين والرعاع»، كما يغذّيها ممارسات الشرطة الوحشية في تنفيذ عمليات القمع والتنكيل ضدّ المواطنين السود، وصولاً إلى قتل من تستطيع منهم بدم بارد على غرار ما حصل مع جورج فلويد.. في انتهاك سافر لحقوق الإنسان .. الذي يدّعي، زيفاً، النظام الأميركي الدفاع عنها في العالم، ويفرض العقوبات الاقتصادية على الدول بحجة حماية المدنيين.. والحريات العامة وحق التظاهر إلخ…
ويبدو من الواضح أنّ هذه الأزمات العاصفة في الولايات المتحدة، تكمن وراء تفجر الاحتجاجات على نطاق واسع، تتزامن أيضاً مع تطورات عالمية تضعف من هيمنة القوة الأميركيّة وهيّبتها وسطوتها.. وهي تتمثّل بشكل أساسي في..
1 – اشتداد المنافسة الاقتصادية العالمية للاقتصاد الأميركي نتيجة انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب الشرق.. وعدم قدرة الولايات المتحدة على منع هذا التحوّل بفعل نشوء موازين قوى عسكرية عالمية، والتداخل في الاقتصاد العالمي، ونجاح القوى الصاعدة اقتصادياً في الوصول إلى المعرفة وامتلاك التكنولوجيا وكسر احتكارها من قبل أميركا والدول الغربية..
2 – فشل الحروب الأميركية المباشرة وغير المباشرة في تحقيق أهدافها في السيطرة على أفغانستان والعراق وسورية واليمن، وفي إخضاع إيران أو إحداث تغيير في نظامها الثوري التحرري المستقلّ..
3 – نجاح الدول الرافضة للهيّمنة الاستعماريّة الأميركيّة في كسر هيمنة أميركا في البحار والمضائق التجارية الحيوية، وظهر ذلك من خلال كسر إيران للحصار الأميركي بإرسال ناقلات نفطها إلى فنزويلا والصين وفرض معادلاتها الردعية في البحار ومضيق هرمز وبحر العرب في مواجهة القوّة الأميركيّة، وكذلك ردع القرصنة البريطانية في مضيق جبل طارق، في حين نجحت الصين في منع أميركا من التحكم بالملاحة في بحر الصين الجنوبي ومضيق ملَقا الذي يعبر منه نصف إمدادات النفط والحركة التجارية الدولية..
انطلاقا من ذلك يمكن القول إنّ الأزمة الداخلية الأميركيّة يغذّيها تفاقم أزمة الإمبراطورية الأميركية المتراجعة في العالم.. وهي أزمة كشفت تراجع الدور الأميركي العالمي، والذي تجسّد أخيراً في عجز واشنطن عن الإسهام في إدارة الحرب العالمية في مواجهة كورونا، وانكشاف هذا العجز أيضاً في الداخل الأميركي..
هذا العجز في الخارج والداخل هو الذي دفع الصحافة الأميركيّة والعالميّة إلى القول بأنّ ترامب لا يملك سياسة متماسكة، وانه يثير الانقسام في المجتمع الأميركي، وأن الاحتجاجات كشفت المرض المزمن الذي تعاني منه أميركا منذ فترة طويلة، وهو مرض تَجذر «فايروس العنصرية» في النظام الأميركي الذي يرفض ترامب معالجته، بل إنه يصبّ الزيت على نار الاحتجاجات..
وما يجعل الأمر مختلفاً هذه المرة واحتمال أن يدخل أميركا في الفوضى والأزمة المفتوحة، إنّ هذا العنف العنصري الذي يمارسه النظام الأميركي، يترافق مع أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في حدّتها وعمقها، في ظلّ رئيس غير عقلاني ومتعجرف لا يتوانى عن فعل أيّ شيء لأجل الفوز بالانتخابات، والذهاب بعيداً في هجومه العنصري ضدّ الأميركيين السود لكسب تأييد الأميركيين البيض باعتبارهم الكتلة الناخبة الأكبر..
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/06/02