أمريكا بين حلم مارتن لوثر كنغ وكابوس مالكوم اكس
د. سعيد الشهابي
شهدت الولايات المتحدة في ستينيات القرن الماضي صعود شخصيات مرموقة حظيت باحترام قواعد شعبية لم يبرز من ينافسها بعد أكثر من خمسين عاما.
في ذروة العنصرية الأمريكية ضد السود نهض مارتن لوثر كنغ ليطلق قوله الشهير: إنني أحلم أن تنهض هذه الأمة يوما وتعيش المعنى الحقيقي لمبدئها: كل البشر ولدوا متساوين. هذا القس المسيحي بدأ نضاله لحماية حقوق السود منذ العام 1955 وأصبح أيقونة وطنية حتى اغتياله في العام 1968. ذلك الحلم لم يتحقق الا شكلا. وهذا ما أكده احد رفاق دربه ضمن الحركة من اجل حقوق السود. مالكوم اكس، الذي يكبر كنغ باربع سنوات، اغتيل هو الآخر في العام 1965 وتنسب له كلمته الشهيرة: لا نرى حلما أمريكيا، ولكننا قاسينا كابوسا امريكيا.
بعد أكثر من نصف قرن، ما يزال مبدأ «المواطنة المتساوية» في الولايات المتحدة الأمريكية وهما، بعد ان اصبح الحلم بها متعذرا. وبرغم ما يفترض من تقدم انساني في مجال الحريات والحقوق والمساواة والعدالة، حدث بعضها في العقود الخمسة بعد الحرب العالمية الثانية، الا ان ربع القرن الاخير شهد تراجعا كبيرا في هذا المجال. ولذلك اسبابه التي من بينها تراجع القيم الأمريكية خصوصا في مجالي الديمقراطية وحقوق الإنسان. فلا يمكن لعاقل ان يعتقد لحظة ان دونالد ترامب يمكن ان يعتبر مثالا لتلك القيم. ولكي لا يكون السجال ضيقا، تقتضي الموضوعية توجيه اصابع الاتهام لمن انتخبه ومن لا يزال يتشبث به. كما أن ظاهرة التراجع عن قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية ليست محصورة بالولايات المتحدة بل ان صعود التوجهات اليمينية المتطرفة في اوروبا مصداق للتوجه العام الذي يبتعد عن تلك القيم.
وما تهميش النزعة نحو العمل الدولي المشترك ابتداء بالأمم المتحدة الا ضمن ذلك التوجه المرعب الذي ادى لما تشهده المدن الأمريكية هذه الايام من توتر وعنف وشغب وقتل وسجن.
ولكي يمكن الحكم على هذه المقولات فان ما سيتمخض عن السجال واللغط والتوتر في الديار الأمريكية سيكون مؤشرا لمدى التزام الرأي العام الأمريكي بما يتشدق به عادة: «قيم الآباء المؤسسين ومبادئهم». ربما من المستبعد ان يخرج دونالد ترامب من الأزمة الحالية في بلاده سالما. فلم يبلغ رئيس سابق ما وصل اليه من تدني نسبة ثقة الناخبين ليس بادارته فحسب، بل بشخصه ايضا، ولكن ذلك ليس مؤشرا للعودة للقيم الإنسانية التي تخضع للتهميش بشكل ممنهج. هذا لا يمنع بروز بعض مؤشرات التمرد ضد سياسات الرئيس التي تعتبر وقودا لنزعات التطرف والتمييز والعنف.
ويجدر هنا التأكيد على ان العنف سمة مميزة للتطرف، أيام كان شكله او عنوانه او انتماؤه العقيدي. والسبب ان المتطرفين يسعون لفرض انفسهم بالقوة والعنف، وليس بالاقناع والدعم الشعبي. فالتظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها امريكا في إثر قتل المواطن ذي السحنة السوداء، جورج فلويد، لم تكن مرتبطة بالجريمة فحسب، بل مؤسسة على قناعات تتعمق لدى قطاعات واسعة بأمور عديدة:
أولها ان النظام السياسي الأمريكي لم يوفر السعادة للمواطنين برغم التطور التكنولوجي والعسكري والقوة الاقتصادية العملاقة. ثانيها: ان الرئيس الحالي يعتبر أسوأ تجربة رئاسية في التاريخ الأمريكي، الامر الذي اصبح يمثل استفزازا لكل من لديه وعي وانسانية وكرامة. ثالثها: ان القيم الديمقراطية تحولت لشعارات لا تؤكدها الممارسات الرسمية التي تساهم تدريجيا في تهميشها وإفراغها من محتواها.
رابعها: ان الجريمة التي ارتكبت تم توثيقها بشكل واضح هذه المرة اعتبرت تحديا للذوق البشري واعتداء على قداسة الإنسان وقيمته. خامسها: ان ادارة ترامب فشلت في الاستعداد للوباء القاتل الذي جعل امريكا تستحوذ على ثلث الاصابات والوفيات في العالم، وألغت نظام الرعاية الطبية الذي طرحه الرئيس السابق، باراك اوباما. سادسها: تراجع الاوضاع المعيشية بين المواطنين مع غياب نظام فاعل للرعاية الاجتماعية. وربما العامل الاكثر اهمية الرئيس نفسه الذي يمثل وجوده على رأس اكبر دولة في العالم، استفزازا للعقل والضمير والاخلاق على مستوى العالم، واكد ذلك تواصل الاحتجاجات ضد ادارته في الاسبوعين الاخيرين. وقد تعمق الشعور بالاستفزاز والتقزز بعد انتشار وباء فيروس كورونا، والتغريدات التي اطلقها ترامب والتي استسخفتها العقول والاذواق.
ثلاثة عوامل مهمة قد تؤدي لتفاعل متسلسل يفضي للتغيير الذي تنتظره قطاعات واسعة من الأمريكيين أكثر من غيرهم.
العامل الأول: بداية التصدع داخل المؤسسة الحاكمة. فقد رفض وزير الدفاع، مارك اسبر، الاسبوع الماضي اوامر الرئيس باستخدام القوات العسكرية لفرض النظام، ولكن وزير الدفاع تراجع عن قراره لاحقا بعد ان استدعي للبيت الابيض وربما هدد بالطرد من منصبه. هذا الموقف يكشف عمق التأزم داخل الادارة الأمريكية. فقد بدأ عدد من اعضاء الحزب الجمهوري يصرحون علنا ضد ترامب، الأمر الذي سيؤدي تدريجيا لتلاشي سلطته. وكان وزير الدافع السابق، جيمس ماتيس قد انتقد الرئيس قائلا انه قد اساء استخدام سلطته التنفيذية واستغل رئاسته لتعميق انقسام البلد. وقد انبرى بعض الجمهوريين للتعبير عن استحسانه جرأة ماتيس بانتقاد ترامب. ووصفت ليزا ميركويسكي، عضوة مجلس الشيوخ عن ولاية ألاسكا تصريحات ماتيس بانها «حقيقية وصادقة وضرورية جاءت في وقتها». لكن هذه التصريحات محدودة وقليلة، وما يزال حزب الجمهوريين داعما لرئيسه برغم تدني شعبيته. هذا التراجع وفر لمنافسه في الانتخابات الرئاسية المزمع اجراؤها بعد ستة أشهر، صعودا غير متوقع.
العامل الثاني: ان اسقاطات الازمة الحالية على التوازن في المجتمع الأمريكي لن تكون سهلة. فبرغم اكثر من نصف قرن على انطلاق حركة الوعي من اجل المساواة وتراجع التمايزات العنصرية، لا يبدو تعامل المؤسسة الحاكمة أقرب لتحقيق تكافؤ الفرص امام الجميع والتطبيق العادل للقانون، او التخلي الكامل عن العقلية العنصرية والاستعلائية. وقد جاءت جريمة قتل المواطن الاسود، جورج فلويد لتعيد فتح الملفات القديمة ـ الجديدة التي تحرك مشاعر الأقلية السوداء التي ما فتئت تشعر بالاضطهاد والتهميش والتمييز. ويزيد من مشاعر الغضب في اوساط المواطنين السود ان القصص التي تعامل معها روادهم الاوائل منذ منتصف القرن الماضي تتكرر شكلا ومضمونا، فكأن التاريخ توقف عن الحركة، وكأن تضحيات الاجيال من اجل اقامة العدالة والمساواة انتهت جميعا الى نهايات مسدودة. كما يضاعف غضبهم حالة اللامبالاة لدى رمز النظام السياسي الذي يحكمهم الذي يتعاطى مع قضايا الحياة والموت بحالة من اللامبالاة واللاشعور واللاإنسانية غير مسبوقة لدى اي من الرؤساء الذين سبقوه.
العامل الثالث: ان امريكا اليوم لم تعد هي نفسها التي اتيحت لها فرص استعراض العضلات خصوصا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتلاشي الاتحاد السوفياتي. فأمريكا القوية التي روج لها ترامب بسياساته طوال السنوات الثلاث الاخيرة لم يعد لها وجود حقيقي في الواقع.
لقد قلص ترامب الدور الأمريكي وسخّفه وأبعده عن الإنسانية، بينما لاذت غالبية الشعب الأمريكي بالصمت حتى وهو يرى الجائحة تنتقم منه وتلتهمه كما تلتهم النار الهشيم. فهل هذه أمريكا التي كانت مدار حلم مارتن لوثر كنغ؟ أم أصبحت الكابوس الذي شعر به مالكوم اكس؟
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2020/06/08