الخطوة الأولى لحلّ الأزمة الليبيّة!
د. محمد سيّد أحمد
لقد تعرّضت ليبيا العربيّة إلى مؤامرة حقيقيّة بهدف تقسيمها وتفتيتها والاستيلاء على ثرواتها منذ أطلقت الولايات المتحدة الأميركية إشارة البدء للربيع العربي المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011. وليبيا العربية بدأت الحرب عليها مبكراً جداً وقبل انطلاق الربيع المزعوم بسنوات طويلة فالتوجهات القومية العروبية الوحدوية المبكرة لقائدها الشهيد معمر القذافي لم تكن لتعجب الامبراطورية الأميركية الاستعمارية الفاجرة، خاصة عندما بدأ تطويرها تجاه أفريقيا بعد انسداد آفاق تحققها عربياً، وبالفعل كان تمدّد أدوار ليبيا في أفريقيا يزعج الغرب الاستعماري بشكل كبير فكانت التهديدات والعقوبات الدولية والحصار الاقتصادي والحظر الجوي هي سلاح أميركا والغرب ضد ليبيا العربية وقائدها معمر القذافي.
وحين اشتعلت نيران الربيع العربي المزعوم كان الثوب الليبي أول مَن احترق، وبدعم من الجامعة العربية المزعومة تم اتخاذ القرار لغزو ليبيا بواسطة الآلة العسكرية الجهنمية الجبارة لحلف الناتو، وكان الصمود الأسطوريّ للشعب العربي الليبي وجيشه وقائده والذي استمر لثمانية أشهر كاملة قامت القوات الغازية خلالها بتنفيذ أكثر من 26 ألف طلعة جوية، وكانت النتيجة الحتميّة هي اغتيال القائد البطل الذي رفض الاستسلام وظلّ يدافع عن وطنه حتى الرمق الأخير وفضل الاستشهاد على الاستسلام للعدو الغازيّ.
ولسنا في حاجة لتأكيد أنّ كلّ عوامل الثورة المزعومة ليس لها أيّ مبرّر أو وجود في المجتمع الليبي الذي كان متوسط دخل الفرد فيه من أعلى متوسطات الدخول في المنطقة العربية، وكان يتميّز بتوافر كلّ سبل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية بل والرفاهية للغالبية العظمى من المواطنين حتى في ظلّ الحصار الاقتصادي الرهيب والطويل، وقد شاهدنا ذلك بعيوننا، وكانت ليبيا دائماً حاضنة فعلية لكلّ العرب وأولهم الشعب المصري، فكما كانت العراق حاضنة وبكرامة للعمالة المصرية كانت ليبيا أحد أهمّ الدول العربية التي فتحت أحضانها للمصريين فكان بها ما يقرب من 2 مليون مصري يتمتعون بكامل حقوق المواطنة وكأنهم ليبيون، وبعد الغزو عاد الكثير منهم ليشكلوا ضغطاً رهيباً على الاقتصاد المصريّ، مما يهدّد الأمن القومي الاجتماعي، ولم تتوقف المسألة على ذلك بل أصبحت حدود مصر الغربية في خطر نتيجة لما حدث ويحدث في ليبيا منذ مطلع العام 2011.
لقد أدّت الأحداث الدامية في ليبيا إلى حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية هائلة أثرت من دون شك على البناء الاجتماعيّ واستقراره وضربت النسيج الاجتماعي المتماسك للمجتمع الليبي وأصابته في مقتل، وكانت نتيجة تلك التحوّلات حدوث انقسام سياسي حاد، واحتراب داخلي، وميليشيات مسلحة، وانتشار السلاح بشكل عشوائي يقدّر بخمسة وعشرين مليون قطعة سلاح، هذا بخلاف 2 مليون مهجر خارج البلاد في دول الجوار مصر وتونس والمغرب، هذا إلى جانب النازحين في الداخل ففي تاورغاء 40 ألف نسمة خارج مدينتهم التي هدمت على رؤوسهم، هذا بخلاف المخيمات في المدن الليبية، وتفتيت وحدة القبائل الليبية التي تقدّر بحوالى 2000 قبيلة، وأخيراً تدمير البنية التحتية لكلّ المدن الليبية بفعل القصف الجوي الوحشي لقوات الناتو الغازية.
وفي ظل هذه الظروف بدأ شبح تقسيم وتفتيت ليبيا يلوح في الأفق، ففي ظل الحرب الأهلية وانتشار الميليشيات المسلحة لم تعد هناك دولة ليبية حقيقية أو نظام سياسيّ واحد بل أصبح على الأرض برلمان وجيش وطني وحكومة مؤقتة في الشرق، وحكومة ثانية في الغرب، هي حكومة الوفاق التي تمّ تشكيلها تحت مظلة دولية وفق اتفاقية الصخيرات بالمغرب، والتي فشلت في مهامها وسقطت شرعيّتها ولكنها جلبت الميليشيات الإرهابية أولاً، ثم جلبت العدو التركي عبر اتفاقيات سياسية وأمنية غير مشروعة، قام على أثرها أردوغان بجلب مزيد من الإرهابيين خاصة الذين كانوا موجودين في الشمال السوري.
والواقع على الأرض الليبية تخيّم عليه سحابة التقسيم والتفتيت، خاصة بعد أن تمكّنت قوى الإرهاب من الدخول والتغلغل داخل بنية المجتمع الليبي، وهو ما يهدّد الأمن القومي المصري بشكل حقيقي لذلك قامت القوات المصريّة مبكراً بضربات خاطفة لهذه التنظيمات الإرهابية التي تسعى للتمدّد قبل الوصول للحدود المصرية الليبية المفتوحة، ومصر في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد هي الجائزة الكبرى التي يحلم بتقسيمها وتفتيتها الأميركان والصهاينة، وما تقسيم وتفتيت ليبيا إلا مقدّمة لتقسيم وتفتيت الأمة العربية وفي القلب منها مصر.
لذلك عندما تطوّرت الأحداث مؤخراً ودخل العدو التركي على الخط بعد أن أخذ إشارة البدء من العدو الأميركي وحليفه الصهيوني كان التدخل المصري السريع والعاجل والحاسم في الوقت ذاته، حيث قامت مصر برعاية المبادرة الليبية في القاهرة، وقام الرئيس السيسي باستقبال عقيلة صالح رئيس البرلمان وخليفة حفتر قائد الجيش الوطني وتمّ إطلاق المبادرة وطرحها على المجتمع الدولي، ثم أعلن الرئيس السيسي أنّ سرت والجفرة خط أحمر أمام القوات التركية المعتدية وهو تطور جديد وكبير للتدخل المصري المباشر للدفاع عن الأمن القومي عبر البوابة الليبية.
لكن وعلى الرغم من ذلك، فكلّ يوم يزداد الأمر تعقيداً على مستوى حلّ الأزمة الليبية، فالمجتمع الدولي لا يسعى بشكل جدّي لحلّ تلك الأزمة بل يساهم في تعقيدها لاستمرار القوى الاستعمارية في سرقة ونهب ثروات الشعب العربي الليبي، واستغلال الموقع الجيواستراتيجي لليبيا. فالقوى الاستعمارية المختلفة تحلم بإقامة قواعد عسكرية على الأرض الليبية مثلما كان في الماضي وتخلص منها القائد الشهيد معمر القذافي، لذلك فالخطوة الأولى لحلّ الأزمة الليبية هي إنجاز مصالحة وطنية حقيقية من دون استبعاد أي طرف ليبي، ولا يمكن أن تتمّ هذه المصالحة إلا برعاية مصرية، وبذلك نضمن الحفاظ على وحدة ليبيا العربية، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الأمن القومي المصري، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
جريدة البناء اللبنانية
أضيف بتاريخ :2020/08/05