ملامح مرحلة ما بعد الصحوة الإسلامية
د. سعيد الشهابي ..
ظواهر اللجوء الإنساني والسياسي، وتصاعد الإسلاموفوبيا وتوسع القلق من وصول العنف إلى العالم الغربي، كل ذلك من ظواهر الحقبة الحالية من التاريخ الإنساني، ومن معالم مرحلة ما بعد «الربيع العربي». فلو نجحت ثورات تلك الحراكات الشعبية العربية لربما كان للتاريخ مسار بمنحى آخر، ولما تحول الشرق الأوسط إلى ما وصل إليه الآن من اضطراب لا ينتهي وصراعات في ما بين مكوناته وبين بعضها والعالم.
وهنا يمكن ملاحظة أن نصف قرن تقريبا تفصل بين انطلاق ظاهرة الصحوة الإسلامية وبداية أفولها. فإذا كانت مرحلة ما بعد حرب 67 قد آذنت بفجر تلك الصحوة، بعد أن ربطت تلك الهزيمة بالتوجهات اليسارية والليبرالية واعتبرت إحدى نتائج الابتعاد عن الدين الذي يمثل هوية الأمة، يمكن اعتبار المرحلة الحالية عكسا لذلك المنحى من النقاش الفكري وما سيتبعه من تطورات ايديولوجية. فصعود ظاهرة التطرف والإرهاب المرتبطة باسم الدين بداية تداعي «المشروع الإسلامي»، وما يترتب عليه من عزوف الباحثين عن الحقيقة عن اعتناق دين الله. وقد شهدت العقود الخمسة الأخيرة إقبالا على الإسلام من قبل أتباعه التقليديين والباحثين عن الحقيقة من الغربيين الذين يشعرون بالفراغ الروحي والفكري بعد أن فشلت الليبرالية في ملء الفراغ الداخلي لديهم. جيل الصحوة من العلماء انقرض تدريجيا، ولم يبق منه إلا العدد القليل، فقد رحل قادة الحركات الإسلامية «المعتدلة» ومنظروها، وآخرهم الدكتور حسن الترابي.
أما النخبة «الإسلامية» التي ترعرعت على فكر أولئك المنظرين فقد لحقت بالعوام وانجرفت باتجاه النهاية المرسومة لها من قبل أعداء المشروع الإسلامي. لقد تم استدراجهم على مستويين: الإيديولوجي بحيث انقادوا لدعاة التشطير والفتنة بدلا من أن يتصدوا لهم ويتشبثوا بمشروع الصحوة الإسلامية التي اتسمت بالاعتدال والعقل والمنطق والحوار والوحدة. كما استدرجوا نحو المال النفطي وما وفره من مؤسسات تارة بعنوان الإعلام وأخرى البحث وثالثة الدعوة. وجميعها مؤدلج وموجه لضرب مشروع «الإسلام السياسي» الذي كانوا جزاء منه وترعرعوا في أحضان منظريه، وساهموا في التقعيد له حقبة من حياتهم.
وهنا يمكن الإشارة إلى ظاهرتين تبدوان مرتبطتين عضويا، ولكنهما منفصلتان تماما. الأولى ظاهرة الثورات السلمية الهادفة للتغيير الايجابي ضمن المسار الإنساني نحو التكامل، وهي ظاهرة فتحت آفاق الفكر والبحث العلمي والسجال الهادئ والسعي للتقارب مع الآخرين من أصحاب الديانات والأفكار الأخرى. تميزت الحقبة التي تتجه نحو التصرم، بالعطاء الفكري المتواصل الذي قفز بالفكر الإسلامي من وضعه التقليدي الجامد إلى الحالة الحركية التي تتفاعل مع التطورات وتطرح الإسلام مشروعا متكاملا لإقامة الدولة المدنية الحديثة المحكمة بالقانون والباحثة في فضاءات العلم والمؤسسة على الأبعاد الإنسانية من الإسلام. فالجميع متساوون أمام القانون، وحق الاختلاف الفكري أو الديني أو الانتماء السياسي مكفول، وحكم القانون هو السائد.
هذه هي الآمال التي طالما اختلجت في نفوس جيل الصحوة منذ مطلع السبعينات. وكانت لتلك الحقبة نتائج ملموسة عديدة: أولها تعميق روح الحرية في نفوس الكثيرين، ودفعهم لتحدي الاستبداد والتخلف وترويج قيم وحدة الأمة وأصالتها وقدرتها على إقامة المجتمع العادل المحكوم بقيم السماء.
ثانيها: التأصيل لمشروع التحرير ورفض الاحتلال، وكان من نتائج التحول الفكري والنفسي في هذا المجال قدرة فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين على التصدي للعدوان الإسرائيلي مرارا، وتحقيق الانتصارات التي عجزت عن تحقيقها جيوش الدول العربية مجتمعة، نظرا لافتقارها للايديولوجيا والدفع الذاتي للدفاع عن الأمة وسيادتها وأراضيها ومقدساتها.
ثالثها: تعمق أفكار الوحدة بين مكونات الأمة وفصائلها المذهبية، فكان الإعلام «الإسلامي» منبرا لبث الأفكار الايجابية وخلق التواصل بين مكونات الأمة وترويج القيم الرفيعة ومنها الحرية واحترام الإنسان وحقوقه واستقلال قرار الأمة والتوجه نحو العلم والتكنولوجيا، والاعتماد على مبدأ الشورى وولاية الأمة ومحاربة الفساد. لقد بحث غير المسلمين كثيرا عن هذا الدين خلال هذه العقود وانتشر الإسلام إلى البلدان النائية، وكتبت الكتب من قبل المفكرين الإسلاميين وكذلك الغربيين للبحث في الإسلام ونظامه العقيدي والسياسي. وقد ساهم انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بنمطها السلمي، في دفع الكثيرين للبحث والكتابة حول الإسلام، برغم الدعاية المضادة لها باعتبارها التجسيد العملي لظاهرتي الصحوة والمشروع الإسلاميين.
والثانية: ظاهرة العنف المنظم باسم الدين، التي ارتبطت بالإقصاء والتكفير والانطلاق على أسس مقولة أن الدين إنما انتشر بحد السيف.
هذه الظاهرة ستؤدي إلى نتائج متناقضة تماما مع الأولى. فهي تعبير عن العودة إلى ما قبل مرحلة الصحوة: جمود على النص، إسقاط الماضي السحيق بخصوصياته على الواقع الجديد بدون مراعاة للتغيرات، تجميد العقل وإبعاده عن السجال الحضاري أو الديني أو الفقهي، تشيد جدران المفاصلة مع المختلفين فكرا ودينا ومذهبا وموقفا، استخدام العنف كخيار أول عند الاختلاف والخلاف، الإقصاء الذي يؤدي للتمزيق والفرقة وفق أسس التمايز العرقي أو الديني أو المذهبي أو السياسي، تسطيح الفكر الإسلامي بشكل يتناقض مع ظاهرة تعميقه في حقبة الصحوة. فكان من نتائج هذا التوجه ما يلي:
أولا: إنهاء حقبة الصحوة الإسلامية بخصوصياتها المذكورة، تمزيق الأمة وكسر وحدتها، إشاعة روح الانتقام والفوضى في المجتمعات بدلا من إقامة حكم القانون، تخويف الآخرين من الإسلام لأن هذه الظاهرة ارتبطت باسمه، فأصبح دين الله مقترنا بالذبح والتصفيات الجماعية والصلب وقمع الحريات العامة خصوصا الخاصة بالمرأة، توفير دعاية مضادة ضد مشروع التغيير الذي رفعته الجماهير العربية في حقبة الربيع العربي، لأن أنظمة الاستبداد تقاربت من أجل حماية نفسها، وأصبح مشروع التغيير والتحول الديمقراطي مستحيلا على التحقق في هذه الظروف. كما أن الإقبال على الدين يشهد تراجعا على صعيدين: ففي العالم الإسلامي برزت ظاهرة الإلحاد بوتيرة تشبه ظاهرة الإقبال على الدين عند انطلاق الصحوة الإسلامية، وتضاءل الالتزام الديني، وتحولت المظاهر الدينية في أغلبها إلى طقوس فارغة من المحتوى الروحي والأخلاقي، وأصبح عامة الناس أكثر اهتماما بجوانبهم المعيشي وأمنهم في ظل انتشار العنف الأعمى الذي لا يميز بين الناس.
جاء انتشار ظاهرة العنف هذه المرة شاملا، فقد تجاوز خطوط الدين والانتماء والجغرافيا، فإذا به يمتد من أقصى شرق العالم إلى أقصى غربه. وإذا ببلد كالبرازيل التي تستعد للدورة المقبلة من اولمبياد العالم هذا العام، تعيش قلقا أمنيا كبيرا من احتمال استهدافها بأعمال عنف خصوصا خلال الألعاب.
لماذا؟ وما الهدف النبيل من استهداف الدورة الرياضية والمشاركين فيها؟ لماذا تستهدف بلدان المسلمين بينما يستثنى الاحتلال والاستبداد من هذه الأعمال؟ وهل من الممكن إقامة منظومة سياسية مؤسسة على مبادىء مرعبة كالقتل ومصادرة الحريات وإشاعة أجواء القتل والموت والفوضى؟
لا شك أن ذلك يمثل أزمة أخلاقية عميقة تضرب القيم الإنسانية والإسلامية لأنها مؤسسة على القتل وسفك الدماء بدون حق، الأمر الذي يمقته الله ويمنعه القرآن الكريم. فمن يدفع ضريبة هذا التطرف والإرهاب؟
لا شك أن المتضرر الأول هو الإنسان وكرامته التي أكدها القرآن الكريم «ولقد كرمنا بني آدم». أما ثاني المتضررين فهو الإسلام الذي ارتبط بشخص رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام الذي حدد القرآن طبيعة رسالته السمحاء: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
ويمكن القول أن اللاجئين وأغلبهم من المسلمين، هم المتضرر الثالث من هذه التوجهات. فهم أولا اجبروا على مغادرة بلدانهم هربا بحياتهم من فتك الانتحاريين، وفقدوا بذلك معنى الأمن والاستقرار والممتلكات، وثانيا أن البلدان التي يتوجهون إليها خصوصا في أوروبا اضطرت في أحيان كثيرة لغلق باب الهجرة ورفضت استقبال أولئك اللاجئين الذين يزحفون بآلافهم من العنف المنظم خصوصا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويتزامن مع ذلك تنامي صعود اليمين المتطرف الذي يقتات على الدعاية الموجهة للاجئين المسلمين، الأمر الذي يهدد أمن العالم من جهة وقيم التعايش والتفاهم والحوار على كافة الصعدان من جهة أخرى. فما هذا «العطاء» الذي تقدمه قوى التطرف والإرهاب لأمتي العرب والمسلمين؟
ومن الذي يقف وراء هذا المشروع المرعب الذي أقض مضاجع الآمنين وشوه صورة الإسلام والمسلمين وأصبح وبالا على الجميع؟ من المسؤول عن حرمان اللاجئين المسلمين من حقهم في اللجوء؟ من المسؤول عن فقدان الأمر والاستقرار في بلدان المسلمين كذلك؟
إنها مسؤولية كبيرة يجدر بذوي العلم النهوض بأعبائها الدينية والمفكرية، وعدم التخلي عن مسؤولية إعادة المسار الإسلامي الصحيح الذي رسمه القرآن الكريم وجسده الرسول الكريم بسيرته الكريمة.
فالبديل عن ذلك السماح للتطرف والإرهاب بديلا عن الإسلام المعتدل وما ينطوي عليه من مشروع سياسي ـ ثقافي بديل يحترم الإنسان ويقدم له بديلا أروع ليسعد في دنياه وآخرته.
صحيفة القدس العربي
أضيف بتاريخ :2016/04/20